home-icon
وقفات مع قصة يوسف عليه السلام (3)

الخطبة الأولى

الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظمته، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم عطائه وجزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على سنته.أما بعد :

عباد الله! اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119].

أيها المسلمون! عشنا في الخطبتين السابقتين، حلقتين من قصة يوسف عليه السلام مع المحن السابقة التي مر بها: محنة كيد إخوته له ووضعه في البئر، ومحنة الاسترقاق في بيت عزيز مصر، ومحنة مراودة امرأة العزيز له، ومحنة مراودة النسوة له، حيث أعانه الله سبحانه في تلك المعارك كلها، وانتصر في تلك المحن والابتلاءات، فتجاوزوها بأمان ونجاح.

أيها المسلمون! وهذه هي الحلقة الثالثة مع محنة جديدة من محن الشدة في حياة يوسف الكريم عليه السلام، فكل ما بعدها رخاء، وابتلاء لصبره على الرخاء، بعد ابتلاء صبره على الشدة، والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة، والسجن للبريء المظلوم أقسى، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى. قال تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) [يوسف: 35] والآن.. وبعدما تأكد القوم من براءة يوسف من مراودة امرأة العزيز، وبعدما أيقنوا أنها هي المراودة له والمتعدية عليه، فلا بد لهم من تقديم ضحية لهذه الفضيحة!

عباد الله ! إن الضحية لن يكون إلا هذا الفتى الرقيق (يوسف)، فليسجن وليحمل هو مسؤولية المراودة والاعتداء.. وبهذا أدخل يوسف السجن مظلوماً.

أيها الأكارم! وفي فترة هذه المحنة وهو في السجن تتجلى نعمة الله على يوسف، بما وهبه من علم تعبير الرؤيا، ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيراً بإعلان براءته الكاملة إعلاناً رسمياً بحضرة الملك، وظهور مواقفه التي تؤهله لما هو مكنون له في عالم الغيب، من مكانة مرموقة وثقة مطلقة وسلطان عظيم.

عباد الله ! وعندما أدخل يوسف السجن، دخل معه فتيان آخران سجينان، وتعامل يوسف مع صاحبيه السجينين بأخلاقه الفطرية السمحة، فأحبَّاه وأعجبا به، ونشأت بينهما صلة وصحبة لما رأياه من حسن سلوكه، واستقامة أخلاقه، وصدق منطقه وقدر الله أن يرى كل واحد من السجينين رؤيا، فقام بقصها على صاحبه وصديقه يوسف طالباً منه تأويلها: (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين) [يوسف: 36]. رأى أحد السجينين نفسه يعصر العنب، ويجعل منه الخمر، ثم يقدم هذا الخمر عصيراً مشروباً، ورأى السجين الآخر نفسه يحمل فوق رأسه وعاءً فيه خبز، فتأتي الطير وتأكل من هذا الخبز، وطلب كل منهما من يوسف تأويل رؤياه (نبأنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) ولما رأى يوسف عليه السلام لهفة السجينين على تأويل رؤياهما، طمأنهما على ذلك، وأخبرهما أنه سيقوم بما يريدان، ويؤول رؤيا كل منهما عن قريب، لكن بعد أن يقدم لهما دعوةً ونصحاً وتذكيراً (قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبَّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما…) [يوسف: 37] قال لهما: أنتما تعلمان أن الطعام يقدم لنا في السجن في مواعيد محددة، ونحن الآن في انتظار وجبة الطعام التالية، التي ستأتينا في وقت محدد، وسوف أعبر لكل منكما رؤياه التي قصها علي، قبل مجيء الطعام القادم، فيعرف ما سيجري له.

أيها المسلمون! وهكذا ينتهز يوسف عليه السلام هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدة التوحيد، فكونه سجيناً لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الحالكة ، فيقول لهما : سأكلمكما بكلمة قبل أن أعبر لكما الرؤيا، أعرفكما فيها عليَّ، وعلى أصلي وعلى أجدادي، وعلى ديني الحق وإيماني الصدق، وعلى ربي ومعبودي، وأبين لكما ما عليه قومكما من الكفر والضلال وأدعوكما إلى الحق.

وقد عرض القرآن دعوته الحصيفة اللطيفة وذلك في قوله تعالى: (ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ۞ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون۞ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار۞ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلاَّ لله أمر ألا تعبدوا إلا إيَّاه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 37 -40] هذا هو “البيان الدعوي الإيماني الذي قدمه يوسف لهما في رقة وأدب، وقوة أسلوب، وعمق تأثير، ليدخل القلب بلا استئذان، وليخاطب الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد رسم يوسف الصديق بهذه الكلمات القليلة الناصعة، كل معالم الدين، وكل مقومات العقيدة، وقد استفتح دعوته إلى التوحيد الذي هو أهم المهمات وأوجب الواجبات (أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهَّار) إنه سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزاً عنيفاً.. إن الفطرة تعرف إلهاً واحداً، ففيم إذن تعدد الأرباب؟ إن الذي يستحق أن يكون رباً يعبد، ويطاع أمره، ويتبع شرعه، هو الله الواحد الأحد القهار!!

أيها المسلمون! وبعدما أنهى يوسف بيانه الدعوي، وقبل موعد حلول تقديم الطعام لهما، عبر لكل منهما رؤياه، كما وعدهما من قبل (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأمَّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) [يوسف: 41] أما الذي رأى نفسه يعصر خمراً ، فتأويل رؤياه أن الملك سيعفو عنه، وسيخرج من السجن، وسيعود إلى خدمة الملك، والآخر الذي رأى نفسه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، تأويل رؤياه أنه سيُحكم عليه بالقتل صلباً، حيث سيقتل وتزهق روحه ويموت، وبعد ذلك سيعلق مصلوباً، وهو جثة هامدة، وتوضع الجثة في مكان عام، وسيأتي الطير وتأكل من رأسه، وبهذا فرح السجين الذي سيفرج عنه، ويئس السجين الأخير الذي سيصلب وستأكل الطير من رأسه.

عباد الله ! وبعد ذلك أحب يوسف السجين البريء، الذي أمر الملك بسجنه دون تحر وبحث، أحب أن يبلِّغ أمره إلى الملك ليفحص عن الأمر، ولذا التفت يوسف إلى السجين الذي سيفرج عنه، وسيعود إلى خدمة الملك، وطلب منه أن يذكره عند الملك قال تعالى : ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف: 42] وفي ذلك وقفة: وهي أن يوسف أراد أن يأخذ بالأسباب المادية، مع توكله على الله المسبِّب، فالمؤمن عليه واجبات: توكله على الله مع اتخاذ الأسباب، فمن ترك أحدهما فقد أخل بجانب الشرع، وعارض التوكل الحقيقي القائم على الاعتماد على الله سبحانه، وفعل السبب الذي أمرنا الله تعالى باتخاذه.

عباد الله ! وقد شاء الله سبحانه أن يعلِّم يوسف كيف يقطع رجاءه عن المخلوقين، وأن يتصل برب الأرباب ومسبِّب الأسباب، ويتمسك بسببه وحده، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد، وكان هذا من اصطفائه وإكرامه، ولذا لما علق يوسف قلبه بالسبب الذي هو الرجل، أراد منه أن يذكره عند الملك لعله يرقّ له فيخرجه من السجن، فأنسى الشيطان ذلك الرجل (الناجي) ذكر الله تعالى، ونسي ذكره ربه في زحمة الحياة وملهياتها، وقد عاد إليها، فنسي يوسف وأمره كله وما وصاه به، ولذلك طالت مدة إيقافه في السجن، كما قال الله : (فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف: 42] وأمضى يوسف (بضع سنين) في سجنه، وهو مظلوم بريء، لكنه كان مع الله، صابراً محتسباً ، فالمسلم مهما ادلهمت به المصائب فإنه يبقى ثابتاً!!

فاتقوا الله عباد الله وقووا توكلكم عليه، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله العليم الحليم، أحمده سبحانه وأشكره فهو الغفور الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد :

أيها المسلمون! ونحن الآن في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) [يوسف: 43] لقد رأى الملك (ملك مصر) رؤيا هامة، اضطرب لها، وتوقع أن الخطر سوف يصيبه أو يصيب البلد، لقد رأى سبع بقرات سمان، فهجمت عليها سبعُ بقرات عجاف- هزال ضعيفة- فأكلتها والتهمتها، وهذا منظر مزعج، ثم رأى سبع سنبلات خضر يانعة ومعها سبع سنبلات يابسات، فتوجه الملك إلى حاشيته بما فيهم الكهنة والمنجمون والمسؤولون ، وقال لهم: ( يا أيُّها الملأ أفتوني في رؤياي إنْ كنتم للرؤيا تعبرون) [يوسف: 43] فلم يقدر الملأ ورجال الحاشية على تأويل رؤيا الملك الخطيرة والعجيبة، فقالوا : (أضغاث أحلام) أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها تأويل، وهذا جزم منهم بما لا يعلمون، واعتذار بما ليس يعذر منه، ثم قالوا: (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) [يوسف: 44] فجمعوا بين الجهل والجزم بأنها أضغاث أحلام، والإعجاب بالنفس، وهذا أيضاً من لطف الله سبحانه بيوسف، فإنه لو عبرها ابتداء- قبل أن يعرضها الملك على الملأ- لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم عجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتماً غاية الاهتمام، فلما عبرها يوسف- وقعت حينئذ عندهم موقعاً عظيماً، فما دلالة هذه الرؤيا الواقعية؟ وما تعبيرها؟ وتأويلها؟ وما هي أثرها على يوسف في محنته؟!

هذا ما سنستمع إليه في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى.

ثم صلّوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال: (إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي يا أيُّها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلموا تسليماً) [الأحزاب: 56].