home-icon
من نواقضِ التَّوحيدِ: الشِّركُ بِالله

الخطبة الأولى

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولو جحد ذلك الجاحدون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حَمَى حِمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فاظهر الله به دينه على الدين كله، ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن على طريقتهم يسيرون، أما بعد :

عباد الله! اتقوا الله تعالى واعتصموا بحبله حق الاعتصام، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام، واحذروا من نواقضها تدخلوا الجنة بسلام.

أيها المسلمون! في خطب سابقة ألمحنا إلماحات سريعة في بيان توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنواعه وفضله، وضرورة التمسك به، توحيده في الاعتقاد، وتوحيده في العبادة، وتوحيده في التشريع، توحيد تـنقّى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتنقى به الجوارح والشعائر من أن تصرف لأحد غير الله، وتنقى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحد دون الله، هذا التوحيد الذي يطالب به المكلف له مقتضيات ولوازم من الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء والدعاء والاستغاثة والاستعاذة يجب على المرء المسلم أن يحققها اعتقادًا وعملًا ممارسًا في واقع حياته.

أيها المسلمون! وإن من أخطر ما يتعرض له التوحيد أن ينقض بناقض من نواقضه، وأن يجرح جرحًا يؤثر عليه، وأعظمها وأخطرها وأشدها هو الشرك بالله ﻷ في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، ولقد حذر الله سبحانه وتعالى من هذا الشرك، وأمرنا بنبذه والبراءة من أهله والإعراض عنه، قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26] وقال ﻷ: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۞ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132- 133] وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65] وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36].

أيها المسلمون! الشرك بالله أعظم الذنوب وأكبرها وأقبحها وأجرأها على الله تعالى، وهو ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وحجب متراصة، فهو يجعل الإنسان عبدًا للمخلوق دون الخالق، به تنقلب التصورات الحقَّة إلى باطل محض، والباطلة حقًا مزيّفًا ، جحدان للخالق وصرف حقه أو شيء من حقه إلى غيره.

الشرك ــــ عباد الله ــــ نوعان:

أولهما: شرك أكبر يخرج صاحبه من الإيمان بالله ويدخله في الكفر، وهذا أخطرها وأعظمها، وهذا الشرك: أن يجعل العبد لله ندًّا وشريكًا في ربوبيته، أو في ألوهيته أو في أسمائه وصفاته أو في تشريعه وأحكامه أو أن ينصرف نوعًا من أنواع العبادة لغيره جل وعلا.

فالشرك في ربوبيته: إما أن يجحد الله سبحانه وتعالى كما فعل فرعون عندما قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، وكشرك ملاحدة هذا الزمان وما قبله الذين يجحدون وجود الخالق سبحانه، ومن شرك الربوبية أن يعتقد العبد أن مع الله تعالى شريكًا له في الخلق أو الملك أو التدبير، وهذا كشرك النصارى الذين جعلوا الله ثالث ثلاثة كما قال تعالى: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73]، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

والشرك الثاني: الشرك في توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180] قال ابن عباس : يلحدون في أسمائه: أي يشركون. وهؤلاء كمن يشبه الله تعالى بخلقه فيقول: يده كيدي ووجهه كوجهي.

أما الشرك الثالث: فهو الشرك في توحيد الألوهية، والعبادة، وذلك بأن يجعل لله تعالى شريكًا فيما يستحقه من العبادة بجميع أنواعها بأن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، كأن يدعو غير الله، أو يسأله الشفاعة، أو يرجوه كما يرجو الله، أو يحبه كما يحب الله وفي الجملة بأن يجعل لله ندًا يعبده كما يعبد الله، أو يصرف له شيئًا من أنواع العبادة التي له سبحانه، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36] وقال سبحانه: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [يونس: 18].

أيها المسلمون! ومن أمثلة ما وقع من الشرك في واقع كثير من المسلمين دعاء غير الله تعالى من شمس أو قمر أو نبي أو ولي، أو قبر أو ضريح في تفريج كربة، أو شفاعة لله سبحانه وتعالى وتوسل له، أو تحقيق مطلوب لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فتجد هذا المسكين يطوف حول القبر ويستغيث بصاحبه ويناجيه من دون الله، ويعرض عليه مشكلته وما اعتراه من الهم والغم ويريده ملبيًا لحاجته.

أيها المسلمون! والشرك الثاني وهو ما يسميه أهل العلم بالشرك الأصغر، ولكنه أصغر من حيث الاسم، أما من حيث المعنى والحقيقة فهو عظيم، بل ومن أكبر الكبائر، ويستحق صاحبه العقوبة والجزاء، وهذا الشرك هو ما كان وسيلة وذريعة إلى الشرك الأكبر، ومما جاء في النصوص تسميته شركًا أصغر كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق فيعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة أخرى، ولا يكون العمل خالصًا كله لله ﻷ.

ومن الشرك الأصغر: الحلف بغير الله تعالى كأن يحلف بالنبي أو بالحياة ونحوها، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد: «من حلف بغير الله فقد أشرك».

ومن الشرك الأصغر: قول : ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وأنت، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، وأرشد إلى قول: ما شاء الله وحده، ومنه توكلت على الله وعليك، ولولا كذا لحدث كذا، مثل لولا السيارة جيدة لوقع حادث، ومن أخطر أنواع الشرك الأصغر ما يقع لبعض الناس في عباداته من إطالة صلاته، أو ينفق ماله ليمدحوه ويثنوا عليه، وهذا مدخله سهل على النفوس، يتوصل به الشيطان إلى أن يوقع صاحبه في الشرك الأعظم فيحرف نيته كلها لأن تكون لغير الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام محذرًا من خطورة هذا الشرك «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» وسماه شركًا خفيًّا، فاتقوا الله سبحانه وتعالى واحذروا من هذا الناقض العظيم من نواقض التوحيد، والقادح الأكبر من قوادحه، واسألوا الله الثبات على دينه، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وسعت رحمته كل شيء وعمت، وتوالت نعمه على عباده وتمت، أحمده سبحانه وأشكره قامت بعبادته وتوحيده النفوس المؤمنة فاطمأنت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك حتى ارتفعت راية الملة واستتمت، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقب الليل والنهار، وازدهرت النجوم واستكنت، والتابعين ومن تبعهم واهتدى بهديه إلى يوم يبعث الإنس والجنة.

أما بعد: عباد الله!

لقد انتشر في واقع كثير من المسلمين مظاهر من الشرك خطيرة، أفسدت عليهم عقيدتهم، وقدحت في توحيدهم، منها: الاستغاثة بغير الله تعالى، وهي طلب الغوث من جلب خير ومنفعة، أو دفع شر وأذى، والاستغاثة نوع من أنواع العبادة يجب إخلاصها وتجريدها لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].

وقال عليه الصلاة والسلام: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله». ويحذر من أن يصرفها أحد لغير الله تعالى؛ كالذين يستغيثون بالموتى مثل رسول الله ﷺ بعد موته، أو بغيره من الناس من أصحاب القبور؛ فيناديهم هذا المستغيث ليفرجوا له كربة ويدفعوا عنه أذى، ويجلبوا له نفعًا.

ومن أشنعه وأقبحه الاستغاثة بالجن، وطلب النصرة منهم، واللجوء إليهم في قضاء الحاجات، وربما يتعدى ذلك إلى طلب الضرر بالآخرين، وقد يقدم لهم أعمالًا شركية أخرى، كتمزيق المصحف، ووضعه تحت الأقدام، أو البول عليه، أو الذبح لهم، فهذا كله من الشرك الأكبر.

ومما ينبغي التنبه له أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر فيما عليه كأن يستغيث غريق بشخص لينقذه من الغرق، أو يستغيث شخص بآخر ليقضي حاجة دنيوية ليه، فهذا لا حرج فيه، ومن مظاهر الشرك المنتشرة دعاء غير الله سبحانه، مثل دعاء أصحاب القبور لتفريج الكروب، وقضاء الحاجات وشفاء الأمراض ونحوها، قال تعالى:
﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18] وقد أمر الله تعالى بدعائه وحده والتوسل إليه وحده، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

ومن المظاهر الشركية الأخرى، الذبح لغير الله تقربًا إليه ليقضي حاجة أو يحل مشكلة، ومنه الذبح للأموات أو للجن والشياطين، قال تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2] وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من ذبح لغير الله».

ومن المظاهر أيضًا: الطوافُ حول القبور والأضرحة، والتمسحُ بها، والبكاءُ والتوسلُ بصاحب هذا القبر وذاك الضريح، ودعاؤه من دون الله تعالى

ومن المظاهر الشركية: أيضًا ما يتسلل به الشيطان إلى نفوس كثير من المسلمين من عدم قبول شرع الله تعالى، أو مساواة تشريعات المخلوقين بشرع الله ﻷ، فيرفض حكم الله تعالى، ويقدم حكم غيره عليه، كالذي يرضى قانون الأرض والناس دون حكم الله تعالى، أو يعترض على تشريع من تشريعاته سبحانه، فاتقوا الله، عباد الله! وطهروا قلوبكم وأعمالكم من هذه المظاهر الشركية الكبرى وغيرها وصلوا وسلموا على النبي المصطفى! والرسول المجتبى، ﷺ أمركم الله تعالى في محكم التنزيل فقال جل من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾. والحمد لله رب العالمين.