home-icon
قصة موسى عَلَيْهِ السَّلَام وواقع اليهود

الخطبة الأولى

الحمد لله، وعد المؤمنين الصادقين بالنصر والتمكين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القوي المتين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، قامت به الحجة وارتفعت به الملة، وبلّغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تذكرون، واذكروا أيام الله بنصر أنبيائه وأتباعهم لعلكم تشكرون، واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه ومن والاهم لعلكم تتقون.

أيها المسلمون! لا زالت مواسم الخير تتوالى على عباد الله المؤمنين، وفضل الله تعالى يتتابع على أوليائه المتقين، بالأمس ودعنا أشهر الحج بما فيها من فضائل ومآثر، وعبادات وقربات، استفاد منها الموفقون، وغنم أجرها الصالحون، واليوم نحن في شهر الله المحرم، أحد الأشهر الحرم، والذي كان يخصه الرسول ﷺ بعبادات وقربات وبخاصة الصيام في العاشر منه.

أيها المسلمون! هذا الشهر العظيم وقعت فيه أحداث عظام، ومواقف جسام، رأس هذه الأحداث وأعظمها، ما حدث لموسى عَلَيْهِ السَّلَام مع فرعون الطاغية، هذا الحدث العظيم الذي كانت نهايته ونتيجته نصر الله تعالى لموسى وقومه وإهلاك فرعون وقومه، وجعله عبرة وموعظة إلى يوم القيامة.

بلغ الطغيان والعلو والجبروت ذروته عند فرعون على الناس، ويزداد هذا الطغيان والظلم لما علم أنه سيخرج من ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام من بني إسرائيل غلام يكون هلاكه على يديه، فيصدر أمره الظالم بأن يُقتل أبناء بني إسرائيل حذرًا من وجود هذا الغلام، فيسخر جميع ما عنده من الإمكانات لقتل كل مولود ذكر، وما علم هذا الطاغية أن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، وأن الدائرة تدور عليه، وأن الله تعالى ينتصر للمظلوم ولو بعد حين.

وُلد موسى، وتضيق به أمه ذرعًا خوفًا من قتل فرعون، ويلهمها الله بأن تضعه في صندوق وتحفظه فيه، وتربطه بحبل تمسكه بدارها، ويلتقطه آل فرعون في النيل ويؤتى به لبيت فرعون، وتراه امرأته وتحبه حبًا جمًا، وقالت مدافعة:﴿وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 9] وقد بلّغها الله تعالى ما رَجَتْ منه من النفع، فهداها الله بسببه وأسكنها جنته، ويتربى هذا الغلام في بيت فرعون، سبحانك ربي من حكيم خبير، ولم يُحرم أمه منه فلم يقبل ثديًا في الرضاعة سوى ثديها: ﴿فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 13] ويكبر موسى، ويهرب من مصر بعد أن وجد رجلين يتضاربان واحد من قومه وآخر من قوم فرعون، فقتل الآخر وندم وطلب من الله المغفرة فغفر له، فهرب لما سمع أنه قيد البحث، وتوجه إلى أرض مدين وهي المدينة التي أهلك الله فيها قوم شعيب، فوصل إليها ووجد مجموعة من الناس يتزاحمون على الماء، ووجد بعيدًا عن الماء امرأتين واقفتين، فسألهما عن شأنهما:﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌۭ كَبِيرٌۭ﴾ [القصص: 23] هكذا الحياء والستر، والعفاف والطهر، لم تختلطا بالرجال من أجل الحاجة إلى الماء بل تنتظران حتى يذهب الناس، فأين نساء اليوم وأولياؤهن ليعوا هذا الدرس العظيم؟ ويزداد الأمر تأكيدًا: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ فما خرجن من بيتهن إلا لحاجة شديدة؛ لأن أباهن لم يستطع الخروج، ويسقي لهما موسى، ويتأكد درس الحياء، فيقرره الله سبحانه من فوق سبع سماوات:﴿فَجَآءَتْهُ إِحْدَىٰهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍۢ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾ [القصص: 25]فيأتي إلى أبيها ويقص عليه قصته ويستأجره: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26] فيتصف بصفات القوة والأمانة، ويتزوج بنته، وبعد مضي المدة ثماني أو عشر سنوات يرجع موسى مريدًا أرض قومه، وفي طريقه أكرمه الله تعالى بالرسالة، وأوحى إليه، وأرسله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين؛ ليعبد الله وحده، ويدع الطغيان والتكبر والجبروت، ولكن فرعون يزداد علوًا في الأرض وعدوانًا حتى هدد موسى ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: 29] فلما أيس منه موسى خرج هو وقومه، وتبعه فرعون وقومه، فأدركهم عند شروق الشمس، وقد انتهوا إلى البحر، فصار البحر أمام قوم موسى، والعدو خلفهم، والجبال عن يمينهم وشمالهم، فخافوا، لكن موسى عليه السلام الواثق بنصر الله، ومن كان مع الله في كل شيء كان الله معهم ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61] فيقول موسى: ﴿ قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62] فأوحى الله إليه ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63] فضرب البحر وهو يتلاطم بأمواجه، فلما ضربه انفلق، وصار اثني عشر طريقًا يابسة، وصار الماء السيال كأطواد الجبال، فانحدروا مسرعين مستبشرين، وتبعهم فرعون وجنوده على أثرهم، فلما جاوزه موسى وقومه وخرج آخرهم، وتكامل فرعون وقومه في داخل البحر أطبقه الله عليهم، وعاد إلى حالته الأولى، فأغرقهم أجمعين، وجعلهم عبرة إلى يوم القيامة، هذه نهاية فرعون الطاغية وقومه في الدنيا، وهي نهاية كل طاغية أو ظالم، ويومُ القيامة أشدُّ وأنكى.

وهكذا نصر الله تعالى موسى وقومه، فتحقق لهم وعد الله، فلهذا صامه رسول الله ﷺ شكرًا، وحث على صيامه، وقال: «إنه يكفر السنة الماضية»، وجعل من السنة صيام يوم قبله، فقال عليه الصلاة والسلام: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» فالسنة صيام يوم قبله أو بعده مخالفة لليهود.

أيها المسلمون!
هذا حدث من الأحداث العظام التي وقعت في شهر الله المحرم، وينقلنا هذا الحدث إلى حقيقة اليهود بعد مضي هذه الأزمنة، الذين حرفوا التوراة، وجنوا على موسى عليه الصلاة والسلام، واتهموا عيسى عَلَيْهِ السَّلَام وأمه مريم، وتنكروا لرسالة محمد ﷺ حسدًا وبغيًا وحقدًا، فغضب الله عليهم ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، نقضة العهود والمواثيق، يحرفون الكلم عن مواضعه، سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت، ملعونون على ألسنة أنبياء الله ورسله، يريدون في الأرض علوًا وفسادًا، ويمشون فيها عتوًّا واستكبارًا، استعدوا على أمم الأرض، ولم يكن لهم فيما اغتصبوه من حق، ولكن تآمرت قوى الكفر على أمة الإسلام تجزئة وتقسيمًا وتفرقةً وتدميرًا، ولقد أكدت الأحداث وأثبتت الوقائع أنهم لا ينصاعون لمساومات ولا يصدقون في محادثات، الخيانة خلقهم، والكذب مطيتهم، والدسائس في السراديب المظلمة مسالكهم، هؤلاء هم يهود الذين خانوا موسى عليه السلام، وجحدوا رسالة محمد ﷺ ونصبوا العداء المحكم له عليه الصلاة والسلام، حتى حاولوا قتله مرارًا، ونقضوا العهود معه، وهذا ديدنهم، وما يفعله كبيرهم الآن في فلسطين قتلًا وهدمًا وتشريدًا وتدميرًا وقل ما شئت من هذه المصطلحات، صورة للوجه الحقيقي لليهود، نسأل الله تعالى أن يقينا مكرهم، وأن ينصرنا عليهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره على نصره لعباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون! ونحن نتحدث عن كيد اليهود وما عملوه في فلسطين، وما أحدثوه من خطوب ومدلهمات، إلا أننا على يقين جازم بأن النصر لعباده المؤمنين الصادقين، ولا أدلَّ على ذلك النصر من بارقة الأمل الكبيرة تلكم الانتفاضة المباركة في الأرض المباركة التي تجاوزت الصعاب وكسرت الحواجز، وأحدثت الرعب في قلوب يهود بأيدي الأطفال التي دكت الحصون، وقاومت مدرعات الطغاة، وآليات الغاصبين، وبصبر الأمهات وثباتهن تجلت عزة المؤمن ووثبته للجهاد وحب الشهادة، وبتلك الحجارة الصغيرة ارتفعت الرؤوس واعتزت النفوس، واستعرت الصخور لهيبًا يحرق الأعداء:﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةًۭ فِى صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13]

أيها المسلمون! لقد تبين من تلك الانتفاضة المباركة لكل ذي لبٍّ وبصيرة، فضلًا عن أهل العلم والمعرفة حقيقتان :

الحقيقة الأولى: أن النزاع والصراع نزاع عقيدة ومبدأ، نزاع هوية ومصير، لا نزاع مصالح دنيوية، فهو نزال بين الإسلام والكفر، فحق على أهل الإسلام أن يدركوا هذه الحقيقة ويعوها.

والحقيقة الأخرى: أن الطريق لحل هذا النزاع هو التمسك بالإسلام كما أثبته الله تعالى في كتابه الكريم، فهو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق والاعتراف به. إن حقًّا على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع، وتصقلهم الابتلاءات والمحن، فيحيوا هذا الطريق.

أيها المسلمون! لقد تشاغل المسلمون فترات من الزمن، فأحيوا بينهم شعارات مزيفة قومية وإقليمية وعرفية جاهلية، فماذا أنتجت تلك الشعارات سوى التناحر والذلة والصغار، حتى صارت أمة الإسلام أمة ذليلة أمام أعدائها؟ فصارت في ذيل القائمة، لقد آن الأوان أن تسقط هذه الشعارات، وتتهاوى تلك الرايات؛ لتبقى راية الدين هي المرفوعة، والولاء والبراء لتلك الراية، وحينئذ يتم النصر والعزة والتمكين لهذه الأمة:﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]

أيها المسلمون! وفي سلسلة هذا الصراع مع يهود، صراعهم العسكري والفكري، تبرز فئات من أبناء المسلمين وبناتهم، تنطلي عليهم مخططات يهود، وتؤثر فيهم؛ لينادوا بين فينة وأخرى بأفكارهم المتلبسة بلباس الدين. ها نحن لا زلنا نقرأ ونسمع من هنا وهناك من ينادي بإقصاء تعاليم الإسلام، ليبقى الانتساب إلى الدين اسمًا دون التمسك بتعاليمه. فتدخلوا في مناهج تعليمنا الشرعي لتقليصه وعدم الحاجة إلى هذا الكم، أرادوا المرأة المسلمة أن تتحلل من تعاليم دينها لتخرج سافرة، تخالط الرجال، لتكون فنانة تعرض جسدها، ولتكون عارضة أزياء لتبعد عن بيتها وغير ذلك، ألم يقرأ أولئك ما قاله يهود في بروتوكولاتهم؟ وانظر إلى ما قرره الله فيهم:﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ ٱلَّذِى جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا نَصِيرٍۢ [البقرة: 120]

أيها المسلمون! لا يختلف اثنان من المسلمين في مكر اليهود وحبهم لإشاعة الفحشاء والمنكر، وهذه صفاتهم وديدنهم، ولكن الخطب العظيم أن ينخدع بهم مَنْ هم مِنْ أبنائنا وبناتنا ممن عاشوا في مجتمعاتنا وتكلموا بألسنتنا، آن الأوان أن نراجع أفكارنا وأحوالنا وسلوكنا لتتسم مع تعاليم ربنا، أسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا، ويصلح شأننا كله، وأن يرد عنا كيد اليهود والنصارى والمنافقين وسائر أعداء الدين.وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، كما أمركم الله جل وعلا بقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا