
الخطبة الأولى
الحمد لله خلق فقدر، وملك فدبر، وشرع فيسّر، وخصّ الصيام بالإفطار وأكلة السحر، بيده تصريف الأمور، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم علينا بأفضل الأيام والشهور، وأتوب إليه وأستغفره ما تعاقب الجديدان، وتوالت السنون والدهور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الرحيم الغفور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أفضل من صام وصلّى، وأعطى واتقى، فكان هو العبد الشكور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم للاهتداء نجوم وفي الظلم بدور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي الغاية والمطلب، والمنجية من غضب الرب، يوم لا ينفع والد ولا ولد، ولا صديق أو حميم.
أيها المسلمون
ها هو الوافد العظيم، والضيف الكريم والمنحة العظمى، والمنة الكبرى، ها هو ميدان المتنافسين، ومنحة رب العالمين، أظلنا بنفحاته وخيراته، وأطل علينا بنوره ومسراته، ها هو غبطة الصالحين وأمنية العباد الصادقين، قد حلّ بنا بأجوره العظيمة، ونسماته الإيمانية، لينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
رمضان المبارك فيه الصيام والقيام، والقرآن والذكر، والصدقة والمواساة، والتفطير وقضاء الحاجات، فيه الأجور المضاعفة، فيه الجنان المنفتحة، والنيران المغلقة، فيه تصفد الشياطين، وتسلسل مردة الجن، فيه الخيرات والبركات، والخصائص العظيمة والنفحات.
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ: «أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتّح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
رمضان هو رمضان منحة الرب جزيل العطايا والمكرمات، شهر الله المعظم، الموسم السنوي للتجديد والتدريب، والتربية والتهذيب، شهر المحاسبة لهذا الكدح الطويل.
شهر الأمانة والصيانة والتقـــى والخـير فيه لمن أراد قبـولا
أيها المسلمون
حق لنا الفرح ببلوغنا الشهر العظيم، نفرح لما فيه من رفعة الدرجات، وتكفير الخطايا والسيئات ومضاعفة الأجور، وكثرة العطايا والهبات، ونيل الفوز وأعلى المقامات، لكن هذا لا يناله إلا من صام حقيقة الصيام، وقام بحق هذا الشهر حق القيام، من أدرك غايته، والعمل بآدابه، مع التوبة الصادقة، والمنافسة في أعمال البر والإحسان، والتسابق في الخيرات.
أيها المسلمون
غاية الصيام التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، تقوى صادقة دقيقة، يترك فيها الصائم ما يهوى حذرًا مما يخشى، ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى تظهر بصورة أدق وأقوى.
يصوم القلب ويتقي إذا جرد العبودية لله وحده، خضع لجلاله وسعى لقربه وأنس بمناجاته، خلص من الشرك، وسلم من البدع وتطهر من المعاصي، قلبٌ تقي، يرى الهوى والشهوة، والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والحقد والحسد، والغل والجدل أمراضًا قلبية فتاكة تقتل الأفراد وتهلك المجتمعات والأمم، القلب الصائم التقي يرفضها ويتقيها، وصيامه ينفيها ويجفوها. وجوارح الإنسان الصائم عين وأذن ويد ولسان وفرج كلها محفوظة بالصيام والتقوى، صلح القلب، فصلحت الجوارح وقامت بحق الطاعة، وكفت عن الآثام، فالصائم تقيٌّ بأذنه، فلا يسمع محرمًا، ويمسك لسانه، فلا يطلقه في الغيبة والنميمة، والكذب وقول الزور، وعينه مصانة عن النظر إلى المحرمات، والبطن محفوظ وما حوى، قال عليه الصلاة والسلام:
«الصيام جُنَّة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشرة أمثالها».
يتعدل السلوك، وتتقوم الأخلاق، وتصح الأعمال وتتهذب الجوارح بالصيام والتقوى.
أيها المسلمون
ورمضان ميدان الأعمال والمسابقة، فهو شهر القرآن والذكر، قراءة وترتيلًا، وتدبرا واتعاظًا، وعملًا وسلوكًا ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] نهاره صيام وليله قيام.
جاء عن البشير النذير «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، في كل حرف منه عشر حسنات، ويحاج عن صاحبه يوم القيامة، وهو شفيع لقارئه، ونور له في قبره، وهدى وموعظة ونور مبين، وشفاء ورحمة وفرقان ونبأ عظيم، يقال لصاحبه يوم القيامة: «اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا»، من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، قارئه الماهر مع السفرة الكرام البررة، ومن يتعتع فيه، وهـو عليه شاق له أجران، ومن خلا من جوفه كان جوفه كالبيت الخراب، هكذا صحت الأخبار عن النبي المختار عليه أفضل الصلاة والسلام، وهكذا فضل القرآن عمومًا فما بالكم به في هذا الشهر الكريم؟ فيا غبن ذاك الغافل اللاهي، الذي ضيع وقته في القيل والقال والملاهي، ويا خسارة تلكم الفئات المشغولة بأمور الدنيا الفانية؟!
أيها المسلمون
ورمضان شهر الإنفاق والبركات، والحب والمواساة، والعطايا والهبات، هكذا كان أفضل الخلق والبريات، وقد كان نبيكم ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ. يعرض عليه النبي ﷺ القرآن، فإذا لقيه جبريل (رضي الله عنه) كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
أيها المسلم الكريم: قلِّبْ طرفك ووجِّهْ جهتك في بقع من الأرض كثيرة، فسترى الأوطان المسلمة استباحها الغرباء، وشعوبًا تخطفها الموت والتشريد، وحقوقًا دفنها الباطل وغطتها المظالم، ومستقبلًا يكتنفه الغموض والظلام، هؤلاء البؤساء فيهم المنفي الذي يتلهى بالبكاء، والطريد الذي يهيم في الصحراء، وشبه الصحراء، تفرقوا تحت كل كوكب، وتشرذموا في كل صقع، إخوان لنا في الدين يعيشون أيامًا قاسية، ويذوقون مرارات متنوعة، فيهم فقراء لا مورد لهم، ونسوة لا عائل لهن، وأيتام لا آباء لهم، ومشردون لا أوطان لهم، يتامى فقدوا أحضان من يرعاهم، أطفال يتضورون جوعًا، وآباء يتقطعون حسرات، وأمهات مكلومات تحجر الدمع في أعينهن، هذه الصور وغيرها من موجعات القلب متكررة في فلسطين وأفغانستان، وفي كثير من البلدان، وممن حولكم محتاجون ملهوفون، ثقلت عليهم أعباء الحياة، وتوالت عليهم نوائب الدهر، واشتد عليهم شظف العيش، وأهلكتهم الحاجة والديون، ويأتي رمضان ليجدد صلاح الصالحين وإحسان المحسنين، ويذكِّر الصومُ الصائمين الذين يتمتعون بأفئدة رقيقة ونفوس إلى الخير سباقة ليمدوا أيديهم بسخاء تفطيرًا لصائم وسدًّا لدين مديون، وتلبية لحاجة محتاج، ومواساة لفقير ومسكين وأرملة ويتيم، ومشاركة في عمل بر وإحسان ودعوة إلى الخير وتحفيظ القرآن.
أيها المسلمون
هذا هو الصائم حقًا الذي عرف ربه صدقًا، وقام بواجبه، وطلب جنة ربه ورحمته، وسعى لحصول رضوانه.
فاتقوا الله رحمكم الله واتخذوا من بلوغكم الشهر دافعًا قويًا للتوبة والعمل والقيام بالفرائض والسنن، اللهم قد أظلنا شهر رمضان فسلمه لنا وسلمنا له، ووفقنا لصيامه وتقبله منا، اللهم وارزقنا فيه الجد من العمل والقوة في الطاعة وحسن العبادة، وأعذنا فيه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسألك اللهم التوفيق لكل خير والمزيد من كل بر، وأوزعنا اللهم شكر نعمتك، ووفقنا لعمل صالح ترضاه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، نفعني الله وإياكم، بالقرآن والسنة، وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نعمه تترى، وإحسانه لا يحد، أحمده سبحانه، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، أعطى، فأجزل، وأنعم، فأسعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه المعوّل، وإليه المستند، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، عبد شكور يواسي الأحمر والأسود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، القدوة في البر والإحسان، والخلق الأمجد، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون! هذا هو الشهر الكريم قد هلَّ، وها هو الضيف العزيز قد حلّ، الموفقون فيه ليلهم قيام ودعاء، ونهارهم صيام وبر وإحسان، طرفهم مغضوض عن الحرام، وآذانهم لا تشنف بالحرام، وألسنتهم رطبة بالذكر والقراءة والدعوة والدعاء، وجوارحهم خاضعة لرب الأرض والسماء، لا تسمع منهم إلا خيرًا، ولا ترى إلا سلوكًا حسنًا، وعملًا صالحًا، أوقاتهم محفوظة، وساعات ليلهم ونهارهم بالطاعات مملوءة، في الخير يتنافسون، وبالأعمال الصالحة يتسابقون، المساجد ميادينهم، فيها يصلون ويقرؤون ويدعون ويذكرون ويعتكفون، وقلوبهم خاشعة لربهم خاضعة، وأفئدتهم بذكر الله هادئة مطمئنة، أياديهم بالكرم سخية، يصلون القريب، ويعطفون على المسكين، واليتيم، هؤلاء- أيها المسلمون- هم الموفقون، وفي درب ربهم سائرون، عرفوا حق شهرهم فاستقبلوه بالعزم على هذه الفعال، فحق لهم أن ينالوا غاية مناهم، الجنة ورضا مولاهم.
أيها المسلمون!
وفئات من المسلمين محرومة، وعن الأجور والخيرات مقطوعة، ليلهم سهر على الملاهي والمحرمات، عكوف على مشاهدة الفضائيات بما فيها من المكروهات والمحظورات، أو على اللهو والعبث والممنوعات، ونهارهم تأفف وتبرم، وضيق ونكد، تعاملهم سيء، وجوههم عابسة، وصدورهم ضيقة، وغيظهم حانق، لا يرون الشهر والصيام إلا جوعًا لا تقوى عليه بطونهم، إرادتهم في الخير ضعيفة، ونفوسهم في الشر كئيبة، هؤلاء صنف من المحرومين.
ومحرومون آخرون شحوا بما في أيديهم، في البذخ والإسراف يتسابقون، وفي بذل الخير يمسكون، وعن أعمال البر والصدقات والإحسان معرضون، أعطاهم الله تعالى من نعمه وأفضاله فبخلوا وأمسكوا، لا يعطفون على مسكين، ولا يحنون على يتيم، ولا تتحرك قلوبهم شفقة على أرملة ومشرد وضعيف، في لهوهم غافلون، وعن إخوانهم المسلمين منشغلون، قلوبهم قاسية، وأفئدتهم مظلمة.
ومحرومون آخرون كسل وخمول، وبرود وفتور، تثقل عليهم الطاعة، عن صفوف الصلاة متأخرون، وعن أعمال الخير متشاغلون، يرضون بالقليل، والصيام عليهم ثقيل، يكتفون بما قلّ وندر من الأعمال، لا يهمهم إلا النوم والكسل، همتهم دنيئة، وغاياتهم قريبة.
ومحرومات من النساء جعلن الأسواق ميادينهن، والتباهي بالمأكولات والمطعومات همهن، وقتهن ضائع بالقيل والقال والغيبة والنميمة، نهارهن نوم ثقيل، وليلهن سمر طويل.
ومحرومون تعساء، أهملوا أسرهم، رجالًا ونساءً، في الليل سمر مع الزملاء والأصدقاء، والنساء بين الهاتف والسوق والتباهي بالأزياء، أولادهم في شتات وضياع بين المسلسلات والشوارع، فهم أشقياء لا يقرئونهم قرآنًا ولا يسمعونهم ذكرًا ولا علمًا ولا دعاء، ولا يربونهم تربية حسنة.
أيها المسلمون!
هؤلاء أصناف من المحرومين، فحذار من الانخراط في سلكهم أو الوقوع في شراكهم، فنحن في بداية شهرنا فاعزموا أن تكونوا من الموفقين الذين فرحوا بنعمة ربهم بإدراكهم الشهر، فعزموا على الاستكثار فيه من الطاعات والنوافـل من بعد الواجبات والفرائض، أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فالشقي من حرم فيه رحمة الله، وصلوا وسلموا على الصائم القائم محمد بن عبد الله. كما أمركم في كتابه الكريم حيث قال ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

الجمعة وآدابها
الخطبة الأولى الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة من أشرف الأيام، وجعله عيدًا لأهل الإسلام، وأحمده سبحانه، وأشكره، وأشهد أن...

شروط الصلاة
الخطبة الأولى الحمد لله وعد المحافظين على الصلاة أجرًا عظيمًا، وأعد لهم في جنات الفردوس نعيمًا مقيمًا، أحمده سبحانه وأشكره...

حقوق الزوجين (2)
الخطبة الأولى الحمد لله، معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أسبغ علينا نعمه المتوالية، وآلاءه المتتالية أحمده سبحانه وأشكره، من...

الطهارة صفتها وأهميتها
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، يحب التوابين ويحب المتطهرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن سيدنا محمدًا...

نبذة عن صلاة الجمعة وخطبتها
الجمعة فيها لغتان: التحريك مع الضم، اسم فاعل فهي سبب لاجتماع الناس، والثانية ساكنة الميم فهي اسم مفعول فهي محل...