
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله حق تقاته، واعبدوه حق عبادته.
عباد الله! في شهر رمضان المبارك، وفي العشر الفاضلة في السنة الثامنة من الهجرة فتح الله على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الفتح الأعظم؛ ألا وهو فتح مكة الذي أعزّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح العظيم الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً.
يقول سبحانه: (إنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ۞ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً) [الفتح 1-2] فارتفعت راية الحق بهذا الفتح، وصارت مكة بلداً إسلامياً ، حلّ فيه التوحيد مكان الشرك، والإيمان محل الكفر، وأعلنت فيه عبادة الواحد القهار، وكسرت فيه أوثان الشرك فما لها بعد ذلك من قرار.
وكان سبب هذا الفتح أن قريشاً نقضت العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية.
فوقعت الخيانة الكبرى من كفار قريش، ونكثت الميثاق، ونقضت العهد، فتهيـأ رسول الله ﷺ بجيش عرمرم من المدينة وقال: “اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها”.
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعة رضي الله عنه كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وأعطاه امرأة على جُعْل- فأتى رسول الله الخبر من السماء- فأرسل علياً والمقداد والزبير، وقال: انطلقوا إلى روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فأتوها وطلبوا منها الكتاب فقالت: ما معي كتاب. فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فأخرجته من عقاصها، فأتـوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا حاطب؟
فاعتذر بأن له في مكة أهلاً وعشيرة وولداً، وليست له فيهم قرابة يحمونهم لأجلها فأراد أن يتخذ عندهم يداً يحمون بها أهله، ولم يفعله ارتداداً عن الإسلام ولا رضىً بالكفر فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله. فقال صلى الله عليه وسلم: “إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” فذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
عباد الله ! لنقف ونتأمل!! فما كان حاطب منافقاً ولا ضعيف الإيمان، ولكن في النفس البشرية جوانب ضعف تطغى عليها في بعض الأحيان، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه لنفسها، وكل بني آدم خطاء، وما كان هذا الضعف الإنساني ليخفى علـى صاحب القلب الكبير، والقوي الأمين، صاحب الخلق العظيم.
فلا تعجب إذا كان الرسول صدقهْ فيما قال، ورحم ضعفه، ونافح عنه، والقوي حقاً هو الذي يرحم الضعفاء، والعظيم حقاً هو الذي يلتمس المعاذير لمن يستنزلهم الشيطان في غفوة من صدق الإيمان ووازع الضمير.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهـــز المسلمين وتهيئتهم للزحف والقتال.
وفي العاشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، متجهاً إلى مكة في عشرة آلاف من المسلمين، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. ولما بلغ كديداً – وهو ماء بين عسفان وقديد- ورأى أن الصوم شق على الناس أفطر، وأمر الناس بالإفطار، ثم واصل سيره حتى نزل بمكان قريب من مكة يقال له : (مَرُّ الظَّهْران) ويسمى الآن وادي فاطمة نزله عشاءً، وأمر الجيش بإيقاد النار، فأوقدوا عشرة آلاف نار كلّ على حدة، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وخرج أبو سفيان خائفاً يترقب، ولا يعلم شيئاً، ومعه حكيم بن حزام وبُديل بن وَرْقاء، فلما رأى النيران قال: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً قال بُديل: هذه والله ! خزاعة، قال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وكان العباس- رضي الله عنه- على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع الصوت عرفه، فقال: أبا حنظلة؟ فقال أبو سفيان – وقد عرف العباس- أبا الفضل؟ قال: نعم، قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليه الصلاة والسلام: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ” فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وما أكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لأغنى عني شيئاً بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
إنه موقف عظيم من هذا الرسول الكريم إمام الأمة، وقدوة الناس، يدخل مكة فاتحاً مجاهداً مقاتلاً ثم يأتيه عدوه بين يديه والفرصة سانحة لأن يقضي عليه؛ ولكنه الدين والمعاملة، والدعوة إلى الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) [النحل: 125] فهدى به الأمة وكشف به الغمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين.
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع وهو القوي العزيز، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله واصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد:
عباد الله! وتابع الرسول ومن معه المسير حتى دخل مكة، ودخل المسجد الحرام وحوله المهاجرون والأنصار، فاستلم الحجر الأسود، وطاف بالبيت وهو على الراحلة وفي يده قوس وحول البيت وبه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعن الأصنام التي حول الكعبة بالقوس ويقول: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً) [الإسراء: 81] (قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) [سبأ: 49] والأصنام تتساقط على وجوهها.
ودخل الكعبة ومعه بلال وصلى فيها ركعتين، ثم وقف على باب الكعبة وقد تكاثر الناس في المسجد وأوجس المشركون خيفة، وكادت تغص حلوقهم بقلوبهم من شدة الخوف، وصارت أبصارهم مشدودة إلى رسول الله ﷺ .
ولكن المظلوم المنتصر أبى إلا أن يضرب مثلاً نادراً في العفو فقام خطيباً فقال: “يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم”؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم): ” (يوسف : 92) اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الأحقاد وعلى الانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، والعفو عمَّن؟ عن قوم طالما عذبوه وأصحابه، وهموا بقتله مراراً، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولم ينفكوا عن محاربته والكيد له بعد الهجرة.
عباد الله! وهكذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاتحين منتصرين فرحين بوعد الله لهم، فلم يقف رسول الله ولا أصحابه عن الجهاد وبذل النفس والمال في الدعوة إلى الله؛ بل كان الفأل شعارهم، والوعد بنصر الله حديثهم، يتخطون بذلك ظروف الزمن الحاضرة، وينظرون بنور الله إلى نصره في الأيام المقبلة.
إن نبينا محمداً ﷺ لما بُعث في مكة لم يكن طريقه محفوفاً بالورود والرياحين، ولم تُسلم العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أقرب الناس إليه بل آذوه واتهموه، وأخرجوه وحاربوه، وعاش المؤمنون معه في مكة فترة عصيبة، واستشهد بعضهم تحت وطأة التعذيب، وفرّ بعضهم بدينه تاركاً أهله ووطنه وأمواله، ومع هذا كله كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم واثقاً بنصر ربه، متفائلاً بتحقيق وعده، ودونكم حديث البخاري لنتأمل ما فيه من بلاء ومحن، وما يحمله من بشرى وتفاؤل ونهي عن الاستعجال في النتائج.
يقول خَبَّابُ بنُ الأرتِّ رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليَتِمَنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.
هكذا رسول الله يَعِدُ أصحابه بالنصر والغلبة على الأعداء حتى وإن لم تَلُحْ في الأفق بوادر نصر حينها، لكنه الأمل والثقة بنصره يراها عين اليقين. فإن قلت يا أخا الإسلام : ذلك رسول الله المؤيد بوحيه !! قيل لك: ذلـك حق، ولكنا مكلفون بالاقتداء به (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21].
وحفظ الله ومعيته، والثقة بنصره، وتمام التوكل عليه ليست خاصة بالمرسلين فحسب (إنَّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل: 128] ( إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) [غافر: 51].
ثم صلوا وسلموا عليه كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

قصة أصحاب الجنتين
الخطبة الأولى الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل...

الإيمانُ بالملائكَة والكتُب والرُّسُل وأثرُ ذلك في الحياة
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، امتن علينا بسلوك سبيل الناجين، أحمده، سبحانه، وأشكره على نعمه حمد الشاكرين،...

التأمل في الكون والشتاء
الخطبة الأولى الحمد لله، بسط الأرض لمعيشة عباده ودحاها، وأخرج لهم منها ماءها ومرعاها ورفع السماء بغير عمد وشد عراها،...

المواقفُ أثناء الفتن
الخطبة الأولى الحمد لله المبدىء المعيد، ذي العرش المجيد، الملكُ ملكه، والخلق خلقه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، أحمده...

الظواهر الكونية وعلاقتها بالعبادة
الخطبة الأولى الحمد لله الذي أتقن كل شيء فهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأثني عليه، وأشهد ألا إله إلا الله...