home-icon
صفات المتقين

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، أمرنا بتقواه وأعد للمتقين الأجر العظيم، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله، وصفته من خلقه، قائد الغر المحجلين، وأتقى المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :

أيها المسلمون!في الجمعة الماضية تحدثنا بصورة موجزة عن كلمة عظيمة، لها شأنها ومكانتها، تلكم هي تقوى الله عز وجل، عرفنا معناها ومكانتها، واهتمام السلف الصالح بها، عرفنا آثارها في الدنيا والآخرة.

عباد الله! تقوى الله سبحانه أن تفعل ما يأمرك به، وتجتنب ما ينهاك عنه، فلا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، تتقي عذابه وعقوبته، فأما الطاعات فتعمل بها، والمعاصي تجتنبها.

التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، وترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

التقوى ترفع درجات صاحبها وتعلي شأنه، وتدخله الجنة، وتكفر سيئاته، وتحط ذنوبه، وتقيه من عذاب النار، (وإنْ منكم إلا واردها كان على ربِّك حتماً مقضياً ۞ ثم نُنَجِّي الذين اتَّقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) [مريم: 71، 72].

ويقول: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنَّةٍ عرضها السمــاوات والأرض أُعدَّتْ للمتقين) [آل عمران: 133]. ويقول تعالى: (ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا واتَّقوا لكفَّرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النعيم) [المائدة : 65]. (ويُنجِّي الله الذين اتَّقوا بمفازتهم لا يمسُّهم السوء ولا هم يحزنون) [الزمر: 61] ويقول سبحانه: ( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) [ق:31] (إنَّ المتَّقين في مقام أمين ۞ في جنَّات وعيون۞  يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين ۞ كذلك وزوَّجناهم بحور عين۞ يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ۞ لا يذوقون فيها الموت إلاَّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم) [الدخان: 51-56] (إنَّ المتقين في ظلال وعيون ۞ وفواكه مما يشتهون ۞ كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) [المرسلات: 41-43] (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) [الحديد: 29].

أيها المسلمون! هذا شأن التقوى، فأين العاملون لها، وأين المتنافسون فيها؟ وأين الراجون لعواقبها؟ هؤلاء هم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه بأوصاف متعددة يتحلون بها، ويمارسونها، ويتنافسون فيها.. فمن أراد أن ينضم إلى سلك المتقين، ومن أراد أن يكون عنصراً قوياً عاملاً في مجتمع المتقين فليستمع إلى تلك الأوصاف، وليمعن النظر فيها، ويتأملها، ويسارع في تطبيقها، ويقوّم بناء عليها.

فمن الأوصاف للمتقين ما جاء في قوله تعالى : (ألم ۞ ذلك الكتاب لا ريب فيه  هدى للمتقين ۞ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ۞  والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالآخرة هم يُوقنون ۞ أُولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة: 1-5]. ويقول سبحانه : (ليس البِرَّ أن تُولُّوا وجوهكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس أُولئك الذين صدقوا وأُولئك هم المُتَّقون) [البقرة: 177] ويقول سبحانه: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين ۞ الذين يُنفقون في السرَّاء والضرَّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ۞ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاَّ الله ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون) [آل عمران: 133-135].

أيها المسلمون! هذه مواصفات المتقين، وهذه سمات أهل التقوى، الأولى: الإيمان بالغيب، ويشمل الإيمان بالله تعالى والملائكة والكتاب والنبيين، فيؤمن العبد إيماناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه من الغيوب التي لا تدركها الحواس، فيعتقد أن الله تعالى هو المعبود بحق، ولا معبود بحق سواه، ويستشعر هذه العبودية في كل مجالاتها الغيبية، والحسية.

والسمة الثانية: إقامة الشعائر التعبدية، كالصلاة والصيام، إقامة ظاهرة بإتمام أركانها وشروطها وواجباتها، وإقامتها باطناً بإقامة روحها وهو حضور القلب حال أدائها، وتدبر ما يقوله ويفعله.

والسمة الثالثة: الإنفاق في سبيل الله من الرزق، وإيتاء المال على حبه، والإنفاق في السراء والضراء، أساليب مختلفة للتعبير عن هذه المهمة، وهذه التعابير تشمل الزكاة المفروضة والصدقة المستحبة، فالمتقي هو الذي يبادر ويخرج مما رزقه الله تعالى، ويصرفه أمواله في وجوه البر الخيرية على ذوي القربى، والأيتام الذين مات عائلهم، والمساكين الذي لا يجدون ما يكفيهم ، والمنقطعين عن أهلهم وأموالهم، ومن يسأل لحاجة وكل ما هو في سبيل الله، وكل هذا الإنفاق ينبغي أن يكون في مرضاة الله تعالى، وفي نفس مطمئنة طيبة، ولذا قال سبحانه : (وآتى المال على حبه) [البقرة: 177] وفي الآية الأخرى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92].

ورابع سمات المتقين: الصبر والمصابرة، وقد ذكر الله مواضع مهمة يتحلى بها المتقون، ويظهر صبرهم (والصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس) [البقرة: 177] صبر على حالة الجوع والعطش، وصبر عند المرض والضعف والضر، وصبر عند مس القرح في المعارك، وهذه المواطن كلها تربي في النفس الاعتماد على الله سبحانه وتعالى والثقة فيه ليرتفع بها الإنسان إلى درجات المتقين.

فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بصفات المتقين الأبرار، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

أيها المسلمون! ومن سمات المتقين: الخلق الحسن الذي يصل إلى درجة ضبط عواطف الإنسان وكبح نزواته، وتحمل سيئات الآخرين عليه، ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ [آل عمران: 134] درجة عليا في السمو الأخلاقي، يكظم الغيظ، والغيظ: الغضب الثائر في النفس، وكظمه: عدم إظهاره، فالمتقي هو الذي يضبط عواطفه حال معاملته مع الآخرين، ويمتنع عن الإساءة إليهم، ثم يرتفع درجة أخرى إلى ﴿العافين عن الناس﴾ فيستولي على شهوة النفس الأمارة بالسوء، والراغبة في الانتقام إيثارًا لما عند الله سبحانه وتعالى، وما أعده للمتقين، ثم يرتفع درجة أخرى فوق هذا الكظم والعفو إلى أن يكون محسنًا في تعامله وماله وعبادته لربه، مع الله سبحانه ومع خلقه ومع البهائم، هذا خلق المتقين، والذين قدوتهم هو محمد ﷺ الذي قال الله عنه: ﴿إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقد جاء عنه ﷺ في الحديث الصحيح: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقال ﷺ: «إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا».
وسادس سمات المتقين: أنهم رجاعون توابون لما بدر منهم من أخطاء، سرعان ما يستغفرون، وينيبون إلى ربهم، ويندمون على ما بدر منهم، وما تجاوزوه من أخطاء مبتعدين عن الكبر والغرور، أو التهاون في صغائر الذنوب، أو الإصرار عليها: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135] وهذه سمة من سمات المصطفى ﷺ، فقد رُوي عن رسول الله ﷺ أنه كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة.
ومن سمات المتقين: الصدق في القول والعمل والسلوك والمعاملة، صادقًا حال كلامه ومخاطبته، صادقًا في أدائه لعلمه، صادقًا في معاملته لربه سبحانه، وللناس، صادقًا مع نفسه في خلوته، يقول الشاعر:

وإذا بحثت عن التقي وجدته    رجلًا يصدّق قوله بفعال
وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه      فيداه بين مكارم ومعالي

ومن سمات المتقين: الاستجابة الكاملة لأمر الله تعالى، والسرعة في ذلك، وقوة الدافع التنفيذي لمراد الله جل وعلا، ودوام الخشية له سبحانه، والحذر من الذنوب، والخوف من تسرب الأمراض القلبية حال الطاعات، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۞ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۞ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۞ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۞ أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57-61].
أيها المسلمون! نظرة سريعة فاحصة يلقيها كل واحد منا على نفسه، يتأمل فيها وضعه وسلوكه، أيًا كان موقعه، وأيًا كانت وظيفته، هل تنطبق عليه هذه المواصفات؟ وهل يتمتع بهذه السمات، وهل يحاول ليقارب صفات المتقين، ويلبي نداء الله سبحانه وتعالى بأمره بالتقوى؟.. فالذي يضعف إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وتخف خشيته وخوفه له، ويقل أداؤه للشعائر التعبدية، ويبخل بماله، أو يصرفه في أمور تافهة، أو كماليات زائدة أو وجوه محرمة، والذي لا يؤدي أعماله الموكلة إليه على الوجه المطلوب، أو يعامل الآخرين معاملة سيئة فيها غش وخداع وكذب وزور، أو يتعامل في حرب الله الذي أعطاه بوجوه غير مشروعة كالربا والتحايل وأكل أموال الناس بالباطل.
والذي يهمل نفسه وأهله وأسرته، فلا يبالي بما يقوّم دينهم وما يضعفهم، لا يهتم بما عملوا، ولا أين ذهبوا، ولا ما ارتكبوا، فكل هؤلاء على خطر في دينهم، وأين هم من صفات المتقين؟ فاتقوا الله عباد الله، واستجيبوا لنداء الله، واندموا على ما فعلتم من التقصير والأخطاء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۞ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]. اتصفوا بالتقوى والبسوا لباسها: ﴿بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
وصلوا وسلموا على خير المتقين وقائد الغر المحجلين، كما أمر الله في كتابه الكريم حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].