home-icon
التفريط في عمل اليوم والليلة

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله ! اتقو الله حق التقوى تفلحوا في الآخرة والأولى.

أيها المسلمون! إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس في هذه الحياة الدنيا، وابتلاهم فيها، وكلفهم بتكاليف شريفة، وهذه التكاليف منها ما هي واجبات، ومنها ما هي مستحبات، ينبغي أن يقوم بها المسلم في يومه وليلته، أو في أسبوعه وشهره، أو في سنته وعمره، ومنها ما هي محاذير يجب أن يجتنبها ويبتعد عنها، وإن من الواجبات والمستحبات ما هو في اليوم والليلة كالصلاة المكتوبة، والأوراد والأذكار، وقراءة كتاب الله تعالى، وصلاة النوافل الراتبة، والاستغفار، وحضور الصلاة جماعة في المسجد، وكذا ما كان واجبات اجتماعية، كبرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، ومعاملة الناس المعاملة الحسنة، وغير ذلك مما يجب على العبد أن يقوم به، أو يستحب أن يبادر فيه تجاه خالقه.

أيها المسلمون! إن المسلم الحصيف العاقل الذي يحسب حساب مستقبله قبل حاله، ويعد لآخرته قبل دنياه، ويملأ صفحته بالأعمال الصالحة هو ذلك المسلم الذي يحافظ على هذه الواجبات اليومية والليلية والأسبوعية ولا يفرط فيها، فيقوم بها خير قيام، فتراه مسابقاً لصلاة الجماعة، قارئاً حزبه من القرآن والأوراد، تامَّ الصلة بالله عز وجل، مؤدياً ما عليه من الحقوق الأسرية والاجتماعية، مالئاً وقته بكل ما هو مفيد له ولمجتمعه، محافظاً على هذا الوقت الثمين الذي هو أغلى ما يملك، لكن حال الكثير من الناس التفريط والتكاسل، بل والإهمال لهذه الأعمال اليومية والأسبوعية، تجده يتأخر عن الصلاة، ويقصر في باقي الواجبات، ويهمل كثيراً من العبادات، متكفياً بالقليل منها، منشغلاً في دنياه عن آخرته، وفي حاله عن مستقبله، وفي نفع العاجل دون الآجل، وهذه حال مؤسفة تنبىء عن غفلة عظيمة، وتؤذن بإهمال شديد.

أيها المسلمون! إن لهذا التفريط في أعمال اليوم والليلة آثاراً وخيمة منها: الاضطراب والقلق النفسي وعدم الاستقرار والاطمئنان حتى في هذه الحياة؛ لأن من كانت هذه حالة قد قَطَعَ عن القلب غذاءَه ودواءَه، ومصدر سعادتهِ وطمأنينتهِ، يقول الله تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى۞ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ۞ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [طه: 124-126].

ومن الآثار السيئة لهذا التفريط الحرمان من العون، والتوفيق الإلهي؛ لأن عون الله تعالى لا يظفر به العبد إلا إذا كان على صلة وثيقة بربه عز وجل، وهذه الصلة تكون بالمواظبة على عمل اليوم والليلة، يقول الله سبحانه تعالى مبيناً عونه لعباده المواظبين على هذه الأعمال: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل: 128] ، ويقول سبحانه : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [العنكبوت: 69] ومن كان الله معه كان حليفه التوفيق والعون والتسديد في أمور دينه ودنياه، ومن لم يكن الله معه حرم من ذلك أيما حرمان.

ومن الآثار السيئة للتفريط في عمل اليوم والليلة التساهل في فعل المعاصي، والجرأة على ارتكابها، والتهوين من شأنها ونتيجتها، فمن تساهل في عدم فعل الطاعة سهل عليه فعل المعصية، كما قال سبحانه في شأن الصلاة: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر) [العنكبوت: 45]. ولذلك من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يستفد منها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً).

ومن الآثار السيئة أيضاً لهذا التفريط عدم الثبات على الحق والانهيار أمام المغريات أو المصائب والشدائد، فالابتلاءات والمحن كثيرة ومعلومة، فمن حافظ على هذه الأعمال رزق الثبات والاستمرار على منهج الله وشرعه فاطمأن وارتاح، يقول الله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [الأحقاف: 13].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك..) إلخ الحديث، ومن الآثار أيضاً: فوات الأجر العظيم، وكسب الإثم الكبير، فالذي تفوته صلاة الجماعة مثلاً: يفوته خمس وعشرون درجة، أو سبع وعشرون درجـة، كما يفوته خطواته إلى المسجد، فبكل خطوة يخطوها تكتب له حسنة، وتحط عنه خطيئة، كما لا يتحصل على استغفار الملائكة له، ثم إنه معرَّض بصلاته وحده إلى نقر صلاته، وعدم أدائها على الوجه الشرعي من خشوع وخضوع وطمأنينة، ومثل هذا غالباً ما يهمل الأذكار التي بعد هذه الصلوات، والتي تعدل صدقات الأغنياء، ومقابلة الله تعالى بالأعمال الصالحة التي هي كالجبال.. هذا تفريط في عمل واحد من أعمال اليوم والليلة، فما بالكم بمن تساهل في كثير من هذه الأعمال في يومه وليلته؟! فاتقوا الله، عباد الله، والزموا أعمالكم اليومية، وحاسبوا أنفسكم، ولا يأخذكم الليل والنهار، والساعة تلو الساعة، والأسبوع تلو الأسبوع، والشهر تلو الشهر، فاغتنموا شبابكم قبل هرمكم، وصحتكم قبل مرضكم، وغناكم قبل فقركم، وفراغكم قبل شغلكم.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون! ما سمعنا من تفريط بعض الناس في عمل اليوم والليلة وآثار ذلك الخطيرة عليهم، فإن له أسباباً منها: عمل المعاصي باستمرار وبلا مبالاة أو تحرز، ولا سيما صغائر الذنوب التي هانت على كثير من الناس، فيعاقب الإنسان بتفريطه، وبسبب مقارفته لتلك المعاصي، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) [الشورى: 30].

سأل رجل الحسن رحمه الله قائلاً : يا أبا سعيد! إني أَبِيْتُ معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبُك قيدتْك. ويقول ابن القيِّم في آثار المعاصي: (ومنها حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله، وتقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كالرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة، فمنعته من عدة أكلات أطيب منها).

ومن أسباب التفريط في عمل اليوم والليلة: عدم إدراك قيمة النعم وسبيل دوامها، فمن سبل دوامها شكرها، ومن شكرها المواظبة على عمل اليوم والليلة من العبادات والطاعات، قال تعالى:(لئن شكرتم لأزيدنكم) [إبراهيم: 7]، ومن الأسباب أيضاً الغفلة عن الحاجة إلى عمل اليوم والليلة، فإن من غفل عن الله وَكَلَهُ إلى حوله وقوته، ومن وُكِلَ إلى ذلك، فقد وُكِلَ إلى ضعف وخَوَرٍ، ومن عرف الحاجة إلى ذلك العمل، وعمل به كان معه، كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه..)

ومن الأسباب أيضاً التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب، فإن العبد إذا أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً فاته خير كثير، فيتحسر عند الموت، وعلى آخرته كثيراً ، فضلاً عن الاشتغال بالملهيات والسهر على ما لا فائدة فيه.

ومن أسباب ذلك نسيان الموت وما بعده من أهوال وشدائد، فإن من لها في هذه الدنيا، ونسي الموت وسكرته، والقبر وضَمَّتَه، والحشر ووحشته، والنشر والحساب، غفل عن أعمال يومه وليلته، ولذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تذكر الموت، فقال:(أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات).ومــــن الأسباب الاكتفاء بالقليل من الأعمال، أو الإعجاب فيها، أو استكثارها، وهؤلاء غرتهم الحياة الدنيا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) ، ومن أعظم الأسباب أيضاً التسويف بأن يؤجل عمل اليوم إلى الغد، حتى تتراكم عليه الأعمال، وتشغله، ويلهو عن الصالحات، يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداًً ، أو موتاً مُجهزاً، أو الدجال، فشر غائب يُنتظر، أو الساعة؟ فالساعة أدهى وأمر.

فاتقوا الله، عباد الله، واجتنبوا هذه الأسباب؛ ليرضى عنكم رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وصلوا وسلموا على خيرته من خلقه، محمد صلى الله عليه وآله وسلم. كما أمركم الله جل وعلا بقوله: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).