home-icon
التعامل المالي وآدابه

الخطبة الأولى

الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي تترى، كتب الأرزاق والأقوات ومقادير كل شيء في كتاب.. لا يضل ربي ولا ينسى.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والكمال والأسماء الحسنى والصفات العلى.

وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، خير من استمسك بالعروة الوثقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.. ومن تبعهم بإحسان واقتدى وتأسى.

أما بعد: عباد الله ! اتقوا الله ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

أيها المسلمون! خلق الله الخلق لعبادته، وشرع لهم ما تصلح به حالهم في الدنيا والآخرة، وكل شيء عنده بمقدار، فمن أسلم واتقى، واتبع سنن الهدى فاز ونجا، وسعد في الأولى والأخرى، ومن عصى وأبى، فقد هوى وانحدر في مهاوي الردى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ۞ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۞ قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ۞ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ﴾ [طه: 124-127].

ومن أهم ما أنعم الله به على عباده مما يقوم عليه معاشهم في دنياهم: نعمة المال، فالمال وسيلة جعلها الله تعالى لقضاء الحوائج، وتحقيق المصالح، وهي وسيلة إلى جنته بالبذل منها في سبيل مرضاته.

أيها المسلمون! وإن من أهم المبادئ التي ينبغي للمسلم استشعارها في تعامله مع هذه النعمة: استحضار أن المال مال الله، فليس لأمرئ أن يتطاول ويرى لنفسه فضلًا فيما بين يديه من هذه النعمة، وقد قص الله تعالى علينا قصة قارون، وجعلها عبرة للمعتبرين إلى قيام الساعة، حيث طغى وبغى وقال فيما آتاه الله من مال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ  ﴾ [القصص: 78]، فقال سبحانه ردًّا عليه: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: 78]، وكانت نتيجة الطغيان والبغي والكبر والعدوان: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ۞ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 81-82].

عباد الله!

من أجل هذا حذر الله جل وعلا عباده من فتنة المال، وبيّن لهم سبحانه كيفية توقيها؛ حتى يكون المال نعمة للعبد، لا نقمة عليه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ۞ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ۞ إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ۞ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ [التغابن: 15- 18].

وقال سبحانه في موضع آخر: ﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ۞ وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِىٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ۞ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9-11].

وقد حذر رسول الله ﷺ أمته من فتنة المال، وأرشدها إلى ما يكون به نعمة وصلاحًا للدين والدنيا، ففي الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله ﷺ قال: «إن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة».

أيها المسلمون! لقد يسّر الله تعالى على عباده التعامل، فأحل لهم أبوابًا كثيرة من الخير ، فالأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه، ولم يأت التحريم إلا لأمور يتنادى عقلاء الأمم كلها بضررها على الأفراد والمجتمعات، وأن صلاح شؤونهم في تجنبها، لما فيها من ربا أو جهالة أو غش أو غرر أو ضرر، فحرم الشرع المعاملات التي تتضمن شيئًا من ذلك، في حين أباح لهم ما لا يحصى من سائر المعاملات النافعة الطيبة التي تصلح بها حياة الناس ومعايشهم.

فحرم الله تعالى الربا؛ لخطره وضرره العظيم على الأفراد والمجتمعات، وتوعد المتعاملين به بأشد العقوبة، وآذنهم بحـرب منه سبحانه، فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278 – 279] ، بل عجّل الله جزاءه في الدنيا بمحق بركته ومعاملة أصحابه بنقيض ما أرادوا، فقال سبحانه: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276].

وروى الطبراني بسند صحيح، عن عبدالله بن مسعود رضي اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله ﷺ قال: «لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون».

ولخطورة الربا البالغة، وأهمية التحذير منه.. فلعله تُفرد له خطبة لاحقة؛ لبيان حكمه وصوره والتحذير من الوقوع فيها.

أيها المسلمون! وإن من أشد مواطن الظلم والخيانة والاعتداء على أموال الناس: أكل أموال اليتامى ظلمًا ، قال المولى الجليل سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، وقال ﷻ: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، وأرشد سبحانه من ابتلي بالقيام على شؤون اليتامى إلى ما يتقي به ظلمهم في أموالهم فقال سبحانه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6].

عباد الله!

وفي سياق الآيات نفسها نبه الله تعالى عباده على نوع آخر من الظلم قد يتهاون فيه كثير من الناس، ويحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم، فقال جل وعلا: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ﴾ [النساء: 4]، فحرم الله تعالى ظلم المرأة في أحد أخص حقوقها التي كرّمها الله تعالى بها، وهو مهر زواجها، فلا يحل لزوج، أو والد أن يستولي على شيء منه إلا بطيب نفس منها، وفي بيان عظم هذا الحق في الحديث المتفق عليه، عن عقبة بن عامر رضي اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله ﷺ قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج».

فليحذر الأولياء من ظلم النساء في حقوقهن.

أيها المسلمون! ومن المكاسب الخبيثة كذلك التي حرمها الشرع:
كل ما فيه أكل لأموال الناس بالباطل بغشّ أو تدليس أو خداع، أو مماطلة بغير عذر في أداء حقوق الناس، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 188].

فمِن أكل الأموال بالباطل: أخذُ الرشوة، وقد لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي، على لسان نبيه ﷺ، روى أحمد، والترمذي، والحاكم بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله ﷺ قال: «لعن الله الراشي والمرتشي».

كما حرم الله تعالى غش الناس والتدليس عليهم في المعاملات، ففي صحيح مسلم أن النبي مر على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللًا. فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماءُ يا رسول الله. قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غش فليس مني»، وفي رواية: «من غشنا فليس منا».

ومن أكل أموال الناس بالباطل كذلك: مماطلة الناس في أداء حقوقهم بغير عذر، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله ﷺ قال: «مطل الغني ظلم».

والمطل: المدافعة والتأخير، والمراد هنا: تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.
والغني المماطل يعد فاسقًا عند جمهور أهل العلم، كما ذهب بعض العلماء إلى أنه مردود الشهادة، كما عدّ بعضهم منع الحق بعد طلبه، وانتفاء العذر عن أدائه من الكبائر؛ لتسميته ظلمًا.

فليحذر الغني المماطل أن يخطفه الموت فجأة، ويبقى الدين في ذمته إلى يوم القيامة، وقد صح عن النبي ﷺ امتناعه عن الصلاة عمن مات وعليه دين، كما صح، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ أن الرسول ﷺ، قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه».

فاتقوا الله، عباد الله.. وتجنبوا هذه الصور المحرمة ؛ ففي الحلال غُنْية عما حرم الله تعالى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بسنة خاتم المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله!

لقد جاءت الشريعة بتحريم كل ضار وخبيث، قال الله جل وعلا: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]، فمن المكاسب الخبيثة: الاتّجار بالمحرّمات التي حرّمها الشرع، من خمور ومخدّرات ودخان، وكل مسكر ومفتر، وكذلك آلات اللهو والمزامير، والأجهزة المفسدة والمضيعة للأموال بغير حق، من كل ضار وخبيث، وفي هذا بيان لشمول الشريعة وإحاطتها بكل ما تصلح به حياة الناس، روى مسلم من حديث ابن عمرو رضى الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم».

وصدق المولى الجليل إذ يقول سبحانه: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة : 3].

عباد الله!

كم من محن وإحن وبغضاء وشحناء تخلّفها المعاملات المحرمة في النفوس تجّلي لنا حكمة الشرع القويم في منعه لها، ورعايته لمصالح الناس؛ حتى لا يستأثر أولو القوة والمكر والتحايل على حقوق غيرهم، وحتى يسود المعروف بين الناس.

قال الله جل وعلا مادحًا متبعي الشرع الحكيم فيما أتى به من تحليل الطيبات وتحريم الخبيث: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف : 157].

وقال رسول الله ﷺ: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر رسول الله ﷺ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك».

واعلموا- عباد الله – أن هذا المال من أفضل ما تتقربون به إلى مولاكم وتسارعون به في الخيرات، متى أخلصتم النية، وتحريتم سبل مرضاة الله فيه، قال الله جل وعلا في آيات كريمات متتاليات تضيء طريق الإنفاق في سبيل الله تعالى أمام المسلم، في بيان فضله الكبير، والتحذير مما يفسده: ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ  ۞ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261-263].

وأرشد رسول الهدى ﷺ إلى ما يتضاعف به أجر الإنفاق في سبيل الله، روى أحمد، والترمذي، والنسائي، عن سلمان بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة».

وصح عن أبي هريرة أيضًا أن رسول الله ﷺ قال: «أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك».

فاتّقوا الله -عباد الله – في معاملاتكم ومطاعمكم ومكاسبكم، واحذروا كل مكسب خبيث، واطلبوا الرزق من الأبواب الطيبة التي أحلها الله تعالى لكم، واصرفوه في المصارف الشرعية التي شرحها الله جل وعلا، ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله جل وعلا في كتابه الكريم حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].