home-icon
الإخلاص أساس التوحيد

الخطبة الأولى

الحمد لله أمرنا بتوحيده، وإخلاص العبادة له، أحمده سبحانه وهو المستحق للحمد كله، وأشكره وهو أهل الشكر دقة وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الذي عبد الله حق عبادته، وجرّدها له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين والسائرين على نهجه، والمقتفين ملته، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم على النار لا تعتبر ولا تقوى.

أيها المسلمون: في خطب سابقة تعرضنا بشيء من التفصيل إلى ما تقوم به عقيدة المسلم، وهو تحقيق الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، غير أن هذه الأركان الاعتقادية لا تتحقق إلا بأن يصحبها اعتقاد قول وعمل، فالإيمان ليس مجرد دعوى لسانية، أو شيء في القلب دون أن يحقق بعمل، وأن يحدو الإنسان إلى هذه المسيرة أمر في غاية الأهمية، به يقبل الإيمان والعمل، وبه يكون صالحًا، وبه تتحدد الغاية من العمل، وهو مفرق الطريق، وأهم أعمال القلوب، وهو موجه الأعمال، ومفتاح دعوة الرسل، ذلكم هو إخلاص هذا الإيمان والعمل كله لله سبحانه وحده لا شريك له وابتغاء وجهه فيه، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيميه ‏:‏: «وهو من أصول الإيمان وقواعد الدين».

والله سبحانه وتعالى أمر بالإخلاص في آيات كثيرة، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2] وقال سبحانه: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3] وقال جل وعلا: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ﴾ [الملك: 2] قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».

وحقيقة الإخلاص أن يفرد العبد ربه بالقصد والنية حيال قيامه بطاعته، وأن يصفي أعماله كلها من كل شائبة كملاحظة المخلوقين وتزيين العبادة من أجلهم، أو ملاحظة أمور الدنيا.

والإخلاص- عباد الله – أمر دقيق تجب ملاحظته ومعاهدته حتى يحافظ الإنسان على أعماله وتكون مقبولة عند الله تعالى، فلا يؤجر الإنسان على عمله ولا يثاب إلا بتجريد هذا الإخلاص.

روى البخاري ‏:‏ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

فمهما كان العمل صالحًا إذا لم يكن القصد منه وجه الله تعالى ورجاء ثوابه وخوف عقابه، وإنما انحرف هذا القصد يمينًا أو يسارًا فلا يقبل. يستوي الاثنان في صلاتهما وقيامهما وأعمالهما الصالحة من حيث الظاهر لكن الأول أخلص هذه العبادة وقصد بها وجه الله تعالى، ونوى بها تلبية نداء الله واستجابة أوامره فهذا مأجور على فعله، مثاب عليه، آمِنٌ من عقاب الله وتعالى وعذابه، مطمئن في دنياه وآخرته.

والآخر أراد عرضًا من أعراض الدنيا كالرياء والسمعة والمال والمنصب والجاه، فهذا غير مأجور، بل مأزور معاقب في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون:

قد يبني الإنسان بيتًا عظيمًا، ويزخرفه زخرفة جميلة، ويجتهد في تحسين منظره، ويبذل أموالًا طائلة، وقد يغرس غرسًا جميلًا، فيه أنواع من الزروع والثمار، والخضرة والجمال، ولكنه أسّس هذا وذاك على أسس غير سليمة فلا تثمر هذه المزرعة ولا يعمر ذلك البيت. فيذهب كل الجهد هباء منثورًا وهكذا الأعمال الصالحة إذا لم تبنى على أساس الإخلاص.

أيها المسلمون:

بالنية الصالحة تنقلب العادات المباحة التي يعملها الإنسان في يومه وليلته كالمآكل والمشارب والنوم والسياحة المباحة، والمسامرة لأهله وأصحابه، تنقلب إلى عبادات يؤجر عليها إذا قصد بها المقاصد الحسنة. اثنان يرقدان على فرشهما؛ الأول توضَّأ قبل نومه، وذكر الله تعالى بالأذكار المشروعة، واستغفر ربه ونقّى قلبه من كل شائبة ووضع يده اليمنى تحت خده ونوى بهذا النوم الراحة والتقوى على طاعة الله تعالى، ووضع المنبِّه لإيقاظه لصلاة الفجر، أو قبله للتهجد، وعزم على ذلك فهذا يثاب على نومه ويؤجر عليه، والآخر رقد على فراشه دون وضوء أو ذكر الله تعالى أو محاسبة لنفسه ولم يحدد ساعة استيقاظه بصلاة الفجر فهذا يأثم على فعله ويحتسب عليه نومه، أرأيتم عباد الله كيف يعمل الإخلاص؟ يجعل حياة الإنسان كلها أجرًا وثوابًا وتوفيقًا وتسديدًا، ولذا على المسلم أن يجتهد في هذا الإخلاص، ويكثر من دعاء الله سبحانه وتعالى بتحقيق هذا الإخلاص، ويدرب نفسه على ذلك ويحاسبها.

أيها المسلمون:

إن من لم يخلص في عبادته لربه، ولم يجرد توحيده له، وتشعبت به نواياه يمنةً ويسرةً، قد عرَّض نفسه لخطر عظيم ومهلكة كبيرة لا يخرج منها في الدنيا والآخرة، ومن أشد هذه المقاصد السيئة التي تنافي الإخلاص الرياء بالعمل بمعنى أن يقصد بعلمه أن يرى الناس حسن عمله؛ فإن كان من أهل الإنفاق أراد أن يمدحه الناس على إنفاقه، وإن كان من أهل التعليم والقراءة أراد أن يثني عليه الناس بقراءته وعمله، وإن كان عابدًا أراد أن يشير الناس إلى عبادته، فاتقوا الله عباد الله واحذروا انحراف النية لغير الله، فإنها مهلكة في الدنيا والآخرة، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. أقول قولي هذا.. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :

عباد الله: ومن أخطر المقاصد السيئة العجب في العمل، فيرى أنه قدّم عملًا جليلًا لم يسبق إليه، أو حسّن صلاته بما لم يستطع أحد أن يجاريه فيها، أو أنفق إنفاقًا لم يقدر أحد أن ينفق مثله، أو قدّم أعمالًا إغاثية ودعويةً أو أمر بمعروف ونهى عن منكر فغُيّر بسببه فأعجب بهذه الأعمال ونحو ذلك، فيتسلل إليه الشيطان فيفسد عمله من طريق هذا الإعجاب.

ومن المقاصد السيئة التقرب إلى فلان أو علان لكونه مسؤولًا أو صاحب مال فيظهر أنه من أهل الخير والصلاح، ويمدح الآخر بما ليس فيه طلبًا لمال أو جاه أو منصب.

ومن تلك المقاصد السيئة ما يفعله بعض الناس من كثرة ذم نفسه، وأنه ليس أهلًا لهذا العمل، وهو يريد عندهم أن يمدحوه بالتواضع، قال مطرف بن الشخير «كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها وذلك عند الله سفه».

أيها المسلمون:

لقد جاء الوعيد الشديد لمن انحرف مقصده عن الله تعالى وطلب بنيته تلك المقاصد ونحوها، روى مسلم ‏:‏ عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استُشْهِد – أي استشهد في المعركة- فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار…» ثم ذكر رسول الله ﷺ مثله قارئ القرآن ومعلم العلم ليقال عالم أو قارئ، ومثله المنفق أمواله ليقال جواد كريم.

أيها المسلمون:

إن على المسلم أن يجاهد نفسه على هذا الأمر العظيم والمطلب الجلل، سُئِل سهل بن عبدالله التُّسْتَري: أيُّ شيء أشدُّ على النفس؟ قال: «الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب».

ومن تخوف من الوقوع في المقاصد السيئة، أو أحس من نفسه ذلك فعليه بمعالجتهـا وذلك بأن يعلم العبد علمًا قاطعًا بأنه عبد محض لله سبحانه وتعالى، وأن يشعر بعظيم نعم الله تعالى عليه وفضله وتوفيقه، فكل خير بفضل من الله ومنته وكرمه، ومن العلاج أيضًا أن يتذكر العبد ما أعد الله للطائعين، وما توعد به العاصين، فيشعر نفسه بعقوبة هذا الرياء، وأن ما يناله مـن الدنيا لا يساوي شيئًا فكيف إذا كان وبالًا، ومن الخير للعبد أن يجعل لنفسه بعض الأعمال الخاصة التي لا يطلع عليه إلا الله تعالى.

ومن مواضع العلاج أيضًا أن يعالج نفسه بكثرة الدعاء والتعوذ بالله من المقاصد السيئة وليكثر من هذا الدعاء: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم ، فإنه يذهب عنه صغار الشرك وكباره كما صح عن رسول الله ﷺ ، ومما ينبغي أن يحذر منه عدم ترك العمل خوفًا من الرياء فهذا من أبواب الشيطان، فليحذر من ذلك أشد الحذر.

وصلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال جل من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.