home-icon
ألا إن نصر الله قريب

الخطبة الأولى

الحمدلله جعل قوة هذه الأمة في إيمانها، وعزها في إسلامها، والتمكين لها في حسن عبادتها، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداًَ عبده ورسوله، دعا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه كانوا في هذه الأمة قدوتها ومصابيحها، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد:

عباد الله! فاتقوا الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(آل عمران: 85)

عباد الله! روت كتب السير أن الفرنجة أعدّوا جيشاً عظيماً للاستيلاء على الأندلس، ولكن قبل أن يتحرك هذا الجيش تنكر أحد جواسيسهم في صورة تاجر، ودخل البلاد لكي يتعرف على أحوال المسلمين، وفي أول خطوة داخل أرض الأندلس الإسلامية، التقى هذا الجاسوس المتنكر بصبي مسلم يبكي تحت ظل شجرة، قال الجاسوس للصبي: لماذا تبكي؟ فقال الصبي: أبكي لأني رأيت طائرين فوق هذه الشجرة، فأردت أن أصيدهما بضربة واحدة غير أن طائراً واحداً سقط بينما طار الآخر ونجا!! فرجع الجاسوس من لحظته إلى قومه ونصحهم بالتريث والانتظار، حتى تتبدل أفكار هؤلاء الأطفال، لأن قوماً هؤلاء أطفالهم لن يهزموا مهما بلغت قوة أعدائهم! لهذا لا بد من استعمال سلاح أشد فتكاً من سلاح السيوف والرماح! ألا وهو سلاح النساء والغناء، والملذات والشهوات، ويا للأسف، فلقد حدث هذا فعلاً، وبعد سنوات قليلة، أصبح الأندلس فردوساً مفقوداً، وتحول إلى قصيدة يتعزى بها المسلمون إلى يومنا هذا!!

عباد الله!

في هذه الأجواء القاتمة، والأيام الحالكة من تاريخ الأمة، وفي هذه الفترة العصيبة، تحتاج إلى وميض من نور، وبشارة أمل تبشر بمستقبل مشرق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وكان عندما تجتاح الكُرَبُ والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين (لقد كانَ لكُم في رسول اللَّهِ أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجُو اللَّه واليومَ الآخر). (الأحزاب: 21).

عباد الله!

والمبشرات في عودة الإسلام، وظهور أهله، واتصال حاضرهم بماضيهم كثيرة، وهي متحققة لا محالة بعز عزيز، أو بذل ذليل، وما سرى إلى نفوس فئة من المسلمين من اليأس والعجز بما يرون من الحاضر الأليم جهالة لا قرار لها، فمهما فشت الضلالة، واستحكمت الغواية، واستشرى الفساد، وانتهكت الحِمَى، فسيبقى الإسلام، وتمتد رقعته، ويبلغ ما بلغ الليل والنهار، بجهود كل مسلم صادق، جاد غير هازل.

أمة الإسلام!

إن من أهم البشارات لعلو الإسلام ما وعد الله به من نصرة دينه ورسوله وحزبه المؤمنين، وخزي الكافرين والمنافقين بأنه وعد محقق لا محالة، ولكن الشرط في ذلك النصر أن نقوم بالإسلام، ونحرك به الأجساد، وأن نعمل لله صادقين موقنين (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) (الروم: 47) فالنصر للمؤمنين وعد من الله، وما من شك في تحققه في واقع الحياة، وإن تأخر عن حساب البشر، واستبطؤوا النصر، فقد (خلق الإنسان من عجل) (الأنبياء: 37) . ويقول جل وعلا: (ألا إن نصر الله قريب) (البقرة: 214).

وروى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، عن تميم الداري: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر”.

عباد الله!

قد يبطىء ظهور الإسلام في فترة من الوقت، وقد يتأخر النصر؛ لأن بناء الأمة لم ينضج، ولم يشتد ساعده، ولأن البيئة لم تتهيأ لاستقباله، ويتأخر النصر لتزيد الأمة صلتها بالله عز وجل، ولكن يتطهر معسكر الإيمان مما يتخلله من مرضى القلوب، وقد يبطىء النصر لتتجرد الأمة في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعواته، أما الباطل، فمهما استعلى، فهـو طارىء وزاهق، ولا بد من هزيمته أمام الحق، قال تعالى: (وقُل جاءَ الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) (الإسراء: 81).

وحكمة الله اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً) (الأنفال: 17) ، وإلا لو شاء لم يكن هناك كفر ولا باطل، قال تعالى:(ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)(محمد:4).

عباد الله!

إن لله سبحانه سنناً لا تتغير، يحكم بها الكون والحياة والإنسان، منها متطلبات النصر ومسببات الهزيمة.

فمن أولاها : ترسيخ العقيدة وغرس الإيمان، لأن الإيمان- عباد الله- يزكي النفوس، ويطهر القلوب، فتصلح، ويكتب الله النصر والتمكين للمؤمنيـن ، قال تعالى: (إنَّا لننصرُ رُسُلَنا والَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا ويوم يقوم الأشهاد) (غافر: 51).

ومن أسباب النصر وأهمها: توحيد الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتحاكم إلى شرعه، والاهتداء بوحيه، ونبذ كل ما يخل به، ويخدش بكماله مـــنشعارات قومية، ولغات ضالة، ومذاهب فاسدة.

فكم جرَّتْ هذه على أمة الإسلام من الشرور والويلات والهزائم والكربات؟

ومن أسباب النصر- عباد الله- نصرة دين الله، والقيام به قولاً وعملاً ، واعتقاداً ودعوة، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى : ( ولينصُرنَّ اللَّه من ينصرُهُ إنَّ الله لقويٌ عزيز ۞ الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عـن المُنكر ولِلَّه عاقبة الأُمور) (الحج: 40 ، 41).

فهؤلاء هم الذين ينصرون نهج الله سبحانه الذي أراده الله للناس في الحياة.

عباد الله!

ومن وسائل النصر: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعلى قدر إخلاص المرء لربه وتجرده له يكون مدد الله وعونه وكفايته، وإن الإمداد على قدر الاستعداد، فعلى حسب ما في القلوب من تجريد النية وصفاء الطوية يكون النصر (لقد رضِيَ اللَّهُ عن المؤمنين إذ يُبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قُلُوبهم فانزل السَّكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) (الفتح: 18) ” ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله”.

ومن وسائل النصر- يا أمة الإسلام: التوكل على الله وحده، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب لما أحدقت بهم الأعداء وتكالبت عليهم، وحاصرهم المشركون ومن معهم، وعظم الخطب، واشتد الكرب (وزلزلوا زلزالاًَ شديداً) (الأحزاب: 11) وبقوا شهراً على تلك الحال الحرجة، والأيام العصيبة أتى أرحم الراحمين بالفرج من عنده، وولى أعداؤهم خائبين ذليلين، ولذلك أمر الله تعالى المؤمنين بتذكر هذه النعمــة، فقال: ( يا أيُّها الَّذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جُنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجُنُوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً ۞ إذْ جاءُوكُم مِنْ فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القُلوب الحناجر وتظنُّون بالله الظنونا ۞ هُنالك ابتُليَ المُؤمنون وزُلزِلوا زِلزالاً شديداً) (الأحزاب: 9-11)

وفي يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض” فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربَّكُم فاستجاب لكُم أنِّي مُمِدُّكم بألفٍ من الملائكةِ مُردفين) (الأنفال: 9) فأمده الله بالملائكة، رواه مسلم .

وهذا موسى عليه السلام كليم الرحمن، حين فرّ من فرعون وجنوده، وكان أمامه البحر الخضم، وخلفه الطاغية فرعون وجنوده، فلما ضاقت السبل، وانقطعت الأسباب (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) أجابهم موسى عليه السلام بثقته بموعود الله تعالى، وقوة توكله على ربه، فقال: ( كلا إن معي ربي سيهدين) فحين علم تعالى بعلمه الذي وسع الكون، قوة إيمان موسى، وتوكله عليه أجابه من فوق سبع سماوات بقوله : (فأوحينا إلى مُوسى أن اضرب بعصاك الحجر فانفلق فكان كُلُّ فِرقٍ كالطود العظيم) (الشعراء: 63)

أمة الإسلام! ومن متطلبات النصر: التجمل بالصبر، وهذا ما نستفيده من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ” رواه أحمد ، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس: “وأن النصر مع الصبر” وفي ختام عدد من السور المكية أوصى الله رسوله ﷺ بالصبر: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس: 109].

فاتقوا الله عباد الله وحققوا نصر الله في أنفسكم تنصروا في واقعكم وعلى أعدائكم، وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه ولي الصالحين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله!

إن من أعظم العوائق التي تقف في طريق النصر: اقتراف الذنوب والمعاصي والركون إلى الدنيا، فحين أعجب الصحابة رضي الله عنهم بكثرتهم يوم حنين كانت الدائرة عليهم في أول الأمر، كما قال تعالى: (ويومَ حُنيْنٍ إذ أعجبتكم كثرتُكُم فلم تُغنِ عنكُم شيئاً وضاقت عليكم الأرضُ بما رحُبت ثُمَّ ولَّيتُم مُدبرين) (التوبة: 25)، وحين عصى الرماة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بقوله: “إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم، قال، فأنا والله رأيت النساء يشتدون، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟

فقال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين” رواه البخاري عن البراء بن عازب.

فهذا الذنب- عباد الله- غير العمد كان سبب الهزيمة، ويا ليت شعري أين موقع هذا الذنب بجانب المنكرات المعاصرة، والموبقات القائمة، والعلــل

عباد الله!

إن أمة الإسلام إذا ركنت إلى شهواتها الحيوانية البهيمية، ورضيت بالذل والهوان، فسوف تمر عليها عواصف من الآلام العصيبة، والنكبات المريرة، وسوف تلاقي أبشع المصائب في تاريخها، وسوف تدفع ثمن ذلك غالياً، دينياً ودنيوياً، وستنساق لعدوها كما تنساق الشاة للجزار، وتكون رهائن بأيدي الأعداء.

أيها المسلمون!

إنه بالنظر إلى المقاييس المادية يظن الناظر إلى أحوال المسلمين أنها سوداء قاتمة، لكنها في موازين الإيمان مبشرة مطمئنة، فكلما اشتدت المحن ظهرت المنح، وقرب انبلاج الفجر.

ولا يدري المسلم متى النصر إلا أننا نعلم يقيناً أن الأصل في الإسلام العلو والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حيناً من الدهر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ” الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى”، رواه البخاري، وأخبر صلى الله عليه وسلم باستمرار ديانة الإسلام فقال: “ولا يزال الإسلام يزيد، وينقص الشرك وأهله حتى تسير المرأتان لا تخشيان جوراً، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالـي حتى يبلغ الدين مبلغ هذا النجم” رواه الطبراني ، نعم أيها المسلمون! إنها بشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتثبت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل من أبناء هذا الدين، قال صلى الله عليه وسلم: “بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض” رواه أحمد .

فاللهَ اللهَ عباد الله ! في تبصر أموركم، والوعيَ الوعيَ في ظروفكم وأحوالكم ومدارسة سنن الله التي لا تتخلف، ثم اعملوا وأبشروا، فكلما زادت الغيوم هطلت الأمطار، وأنبتت الأرض وازينت، ، عجّل الله الفرج والفجر، وأذل أهل النفاق والكفر.

ثم صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال جل وعلا: (إنَّ اللَّه وملائكتَهُ يُصلُّون على النَّبي يا أيُّها الذينَ آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً) (الأحزاب: 56)