
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أمر بالإحسان وأخبر أنه يحب المحسنين، أحمده سبحانه وأشكره على فضله وإحسانه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على الخلق أجمعين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، ﷺ صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى، وأحسنوا إلى أنفسكم وأسركم ومجتمعكم تفلحوا في الآخرة والأولى.
أيها المسلمون! بعث النبي ﷺ في مجتمع جاهلي، لا يسوده نظام، ولا تحكمه شريعة، ولا يسري فيه أخلاق، سمته العامة وشعاره الظاهر: القوي يأكل الضعيف، والغني لا يرعى حال الفقير، فبعث الله سبحانه وتعالى محمدًا ﷺ ليصحح للناس عقائدهم، ولينشر الأخلاق الحسنة بينهم، وليجعل لهم في هذه الحياة غاية، تحكمهم شريعة واحدة ونظام واحد، العلاقة بينهم أساسها المحبة والمودة، والأخوة والإحسان، الكبير يعطف على الصغير، والغني يسد حاجة الفقير، والقوي يرحم الضعيف.
بُعث رسول الله ﷺ لينشر كل معاني الخير والسعادة والطمأنينة سواء في علاقة العبد مع ربه، أو مع الناس.
أيها المسلمون! من هذه المعاني الخيرة، والمبادئ السامية التي رسخها الإسلام في نفوس أتباعه، وعمقها رسول الله ﷺ في قلوب أصحابه: الإحسان، الإحسان في كل شيء، بكل ما تحمله هذه الكلمة العظيمة من معانٍ سامية ومدلول نبيل.
جاءت الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة بالأمر به، والحث عليه بصيغ متفاوتة، وعبارات متعددة، بالحث عليه صراحة، وبيان ما يترتب عليه أخرى، ويعظم الأجر لمن قام به، وبتوضيح معانيه ومدلولاته.
الإحسان- عباد الله! – يتناول معاني عظيمة، فأسماها وأعلاها وأجمعها: الإحسان فيما بين العبد وبين ربه، يصور هذا المعنى العظيم رسول الله ﷺ في عبارات موجزة، مليئة الفوائد، قوية الدلالة، تجعل الفرائص ترتعد وقوفًا عندها، سأل جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ عن الإحسان، فقال له: ﴿أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ﴾ [الإيمان: 1] (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) مسلم.
تصور أخي المسلم! أنك واقف أمام من هو عظيم من البشر لديك، تقدره وتحترمه، وتخشى وتخاف منه- ولله المثل الأعلى- كيف أنت صانع بهيئتك ولباسك، وكيف تحسب وتراقب ألفاظك وعباراتك، وكيف تصغي إلى أوامره وتوجيهاته؟!
كذلك الإحسان مع الله تبارك وتعالى تقوم بعباداتك كلها مستشعرًا أن الله سبحانه معك يراك، ويطلع على ظواهرك وبواطنك، يطلع على خواطر النفس وألفاظ اللسان، وحركات الجوارح، يطلع على العمل والنية، فماذا أنت فاعل حين تستشعر هذا الأمر، وأنت تؤدي عباداتك من صلاة وصدقة وصيام وحج وبر وصلة وغيرها؟ لا شك، ولا ريب أنك ستمحض هذه العبادة بالإخلاص والتجرد الكامل لله سبحانه وتعالى، تؤديها في نشاط كامل، ويقظة تامة
وإن لم تستشعر هذا الأمر وتستحضره، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليك «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» خشعت في عبادتك أو سهوت فيها، أحضرت قلبك أم اشغلته بأمور الدنيا، أو شغله الشيطان بالوساوس والهواجس، ففي جميع الأحوال والظروف، فربُّ الأرباب مطلع عليك، ومحص لحظاتك وخواطرك وأقوالك وأعمالك:
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة:18] ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49]
أيها المسلمون! ومن وجوه الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الناس والبهائم إحسانًا ماديًا ومعنويًا، إحسانًا يتمثل فيه المحسن سلامة القصد، ونقاء الضمير، ونظافة القلب، وستر العطية، من غير منّ ولا أذى، بألفاظ طيبة، وعبارات حسنة، وكلمات مهذبة، فيؤدي هذا الإحسان نتيجته ويثمر ثماره اليانعة.
على رأس هؤلاء الذين يحسن إليهم: الوالدان والزوجة والأولاد والأقربون والمحتاجون بأصنافهم وأنماطهم، اسمعوا قول الله تعالى مصورًا هذا الإحسان العظيم:﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء:36]
فالإحسان إلى هؤلاء جميعًا بعبادته والأمر بها، فطاعة الوالدين وصلة القريب، وحسن الجوار للجار القريب والبعيد، ورعاية اليتيم والقيام بحاجة الضعفاء والمساكين، ومواساة الحزين والمهموم، وسد حاجة المحتاج، ومساعدة المسافر المنقطع، ودفع المال لمن يستحقه قريبًا أو بعيدًا، ونحو هذه الأحوال كلها من ضروب الإحسان التي أمر بها الخالق جل وعلا، وندب إليها.
فقلب طرفك- أيها المسلم- وانظر في حالك مع هؤلاء الأصناف كلهم، فهل قمت في هذه الحقوق وأديتها على وجهها الشرعي، وكنت محسنًا؟
أيها المسلمون! إن الأمة المسلمة اليوم بتباعد ديارها، واختلاف أشكالها وأنماطها بحاجة إلى الإحسان الذي ندبنا الله إليه، وحثنا عليه، وأمرنا به، فأينما وجهت وجهتك إلا وجدت أقلية مسلمة، أو جماعة من المسلمين مضطهدة في دينها، أو ممزقة الكلمة مشتتة الوجهة، فضلًا عن قتل الرجال وتيتيم الأطفال، وترميل النساء، وهتك الأعراض، إن صرخات الثكالى، وأنين الجرحى، وصيحات الأطفال الرضع، وبكاء الشيوخ الركع في مشارق الأرض ومغاربها، وأمة الكفر من يهود ونصارى ووثنيين وبوذيين كلمتهم واحدة، وسيوفهم مجتمعة على أولئك العزل، ما ذنبهم وما جريمتهم؟ وما الكبيرة التي ارتكبوها؟ إنهم مسلمون مؤمنون بالله، يدينون دين الحق، حالهم يندى لها الجبين، ويشيب لها رأس الوليد، وتبكي لها البهائم والحيوانات، وتعكس صرخاتهم الجدران الصماء، فكم قتل من قتيل؟ وكم جريح يئن من جراحه ليل نهار، ومريض يتلوى لا يجد ما يسكن ألمه، وضعيف لا يرى من يرأف بحاله، وطفل يصرخ فاقدًا أمه وأباه، تنتشله الأيدي الكافرة لتربيه تحت أنظارها ووفق مبادئها ليعود سيفًا مصلتًا على الإسلام وأهله؟
أيها المسلمون! إن الأمة المسلمة في كل مكان تنتظر إحسانكم المادي والمعنوي، تنتظر دعواتكم الحارة الموصولة من القلب بخالق الكون ورب السماوات والأرض، تنتظر إحسانكم المادي، ولو كان قليلًا ليستشعروا صلتكم بها وإحساسكم بقضاياهم، تنتظر صدقاتكم وتبرعاتكم، قوموا بذلك كله لتقطفوا ثمار إحسانكم، وتكونوا من أحباب الله، وخاصة الذين لا تفارقهم رحمته طرفة عين:
﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف:56]
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ﷺ صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها المسلمون! ومن ضروب الإحسان، إتقان العمل، وأداؤه على أحسن وجه وأتمه، والقيام به على وجهه الشرعي، ولو كان في نظر الإنسان أمرًا تافهًا، أو شيئًا حقيرًا، وسواء كان للخلق من الناس، أو للحيوانات والبهائم، فالإحسان يشمل ذلك كله، روى مسلم أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحِ الذَّبِيحَةَ» (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) مسلم.
فحتى البهائم حال ذبحها لا يعذبها، فيحد الشفرة، وليجهز عليها بسرعة، فيريحها، ويخفف آلامها.
وقد أخبر النبي ﷺ أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فإذا كان الإحسان إلى البهائم سببًا لدخول الجنة، فما بالكم أيها المسلمون بالإحسان إلى الناس فضلًا عن الإحسان إلى المسلمين؟
ومن ضروب الإحسان: الإحسان إلى الذرية بتربيتها على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والقيام بحقوقهم، ورعايتهم، وكذا الإحسان إلى كل من ولاك الله شأنهم من موظفين وعمال وخدم وغيرهم، فتقوم بحقهم ولا تبخس شيئًا، تحسن إليهم بما أوجب الله عليك تجاههم.
أيها المسلمون! وكما يكون الإحسان بالفعل والعمل، يكون بالقول والمخاطبة بالحسنى، والكلام اللين، وبانتفاء العبارات المهذبة، والألفاظ الحسنة، فتقوم علاقة الناس على المودة والمحبة، والأخوة والألفة، وتبعد نزغات الشياطين، فتصفو القلوب، وترتاح الضمائر، وتقوى العلاقات والصلات بين المسلمين بعضهم ببعض، يقول جل وعلا: ﴿وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمۚ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء:53]
ويقول سبحانه:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۞ وَمَا يُلْقَاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا۟ ۚ وَمَا يُلْقَاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت 35:34]
أيها المسلمون! الإحسان بهذا المعنى، وبهذا التطبيق تغفر به الذنوب، ونكفر السيئات، وتمحى الخطايا والزلات،ويقول جل وعلا:
﴿وَإِن تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ۖ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن:17]
الإحسان وسيلة عظيمة لرفعة الدرجات، ومضاعفة الحسنات، والقرب من رب البريات، يقول سبحانه: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْۖ قَالُوا خَيْرًاۖ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل:30]
ويقول جل وعلا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس:26]
وقد فسر كثير من أهل العلم أن الزيادة هي النظر إلى الخالق جل وعلا، رزقني الله وإياكم لذة النظر إلى وجهه الكريم، وصلوا وسلموا على سيد المرسلين، كما أمركم الله في كتابه الكريم حيث قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56]

الصراع بين الحق والباطل
الخطبة الأولى الحمد لله الذي جعل الحق ناصعًا أبلجًا، وجعل الباطل مظلمًا لجلجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده...

في وداع رمضان
الخطبة الأولى الحمد لله، وفق من شاء لطاعته، فكان سعيهم مشكورًا، ثم أجزل لهم العطاء والمثوبة، فكان جزاؤهم موفورًا، أحمده...

من نواقض الإيمان: النفاق
الخطبة الأولى الحمد لله شرح صدور عباده المؤمنين لطاعته، وأعانهم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وحذر من الالتواء، والنفاق في...

من أنصار المرأة
الخطبة الأولى الحمد لله خلق الناس من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها، أحمده سبحانه، وأشكره على نعمه التي...

الإرهاب والضرورات الخمس
الخطبة الأولى الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا...