home-icon
التحذير من الربا

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والطول والإنعام، أحل لعباده الطيبات، ومحق بركة الحرام، فله الحمد على لطفه وإحسانه في كل حين ومقام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم العلَّام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعث الأنام، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق تقواه في السر والعلانية، وفي الأقوال والأفعال والأموال.

عباد الله! إن المؤمن الصادق في إيمانه، المتبع شرع ربه، وهدْي نبيه ﷺ، يعلم علم اليقين أن ما استُخلفنا فيه من الأموال والنعم الكثير إنما هو من عند الله وحده، ولا ينبغي أن يوضع إلا فيما أحلّه، وبهذا التحري في هذه النعم والأموال تحصل البركات، وتندفع النقم والشرور والآفات، قال الله جل وعلا: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].

وكتب المولى الجليل أن يذيق بأسه ونقمته من تنكب هدايته وكفر نعمته، فقال سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۞ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [النحل: 112- 113].

ثم بيّن المولى جل وعلا عقب هذه الآيات مباشرة سبيل النجاة بقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].

عباد الله! وقد سبق معنا بيان أن هذا المال نعمة من الله تعالى، ويجب التعامل فيه وفق شرعه سبحانه، والحذر من المعاملات المحرمة.

أيها المسلمون! ويأتي على رأس المعاملات المحرمة، وأشدها ضررًا في حياة الناس: الربا، تلكم الآفة الموبقة المهلكة، التي تجلب لأصحابها العار والدمار، فهم في أعين الناس أهل الجشع والطمع والجور، لا تشبع بطونهم ولو جمعوا ملء الأرض ذهبًا، كيف لا، وقد كتب من بيده الأرزاق والمقادير أن يمحق الربا، فلا يجد آكله بركة ولا نفعًا، بل هو في جشع مستمر، وقلق دائم، لا يكاد يستمتع بما يجمعه من الحرام؟

روى أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي ﷺ قال: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة».

أيها المؤمنون: لقد توعد الله تعالى أصحاب هذه الآفة البشعة، والكبيرة العظيمة، بما لم يتوعد بمثله غيرها، فقال سبحانه: ﴿ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278-279].

ووصف جل وعلا حال المرابين ومآل الربا، وما ينطوي عليه من آفات عظيمة وشرور جسيمة، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 275-276].

وقال سبحانه في موضع آخر: ﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39].

واستفاضت السنة النبوية بالتحذير من الربا ووصف آكليه بأشنع الصفات، وتوعدهم بأشد العقوبات في الدنيا والآخرة.

فقد عدَّ رسول الله ﷺ الربا من السبع الموبقات، فقال في الحديث المتفق عليه: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».

وقال ﷺ في خطبة حجة الوداع: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع- إلى أن قال- : وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».

وفي صحيح مسلم أنه ﷺ: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء – يعني في الإثم-».

وروى الحاكم أنه ﷺ قال: «الربا ثلاث وسبعون بابـًا وأحمد في مسنده، واللفظ لمسلم. أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه».

قال بعض العلماء: إنما كان الربا أشد من الزنا؛ لأن فاعله حاول محاربة الشارع بفعله بعقله، قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]  أي بحرب عظيمة، فتحريمه محض تعبد، وأما قبيح الزنا، فظاهر عقلًا وشرعًا، وله روادع وزواجر سوى الشرع، فآكل الربا يهتك حرمة الله، والزاني يخرق جلباب الحياء.

وروى البخاري عن سمرة بن جندب رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: «كان النبي ﷺ إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء الله، فسألنا يومًا، فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة- إلى أن قال ﷺ – فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان – ثم فسر له هؤلاء بأنهم آكلوا الربا».

وصح عند الطبراني، عن ابن عباس رضي اللهُ عَنْهُما، أن النبي ﷺ قال: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله».

وما ذاك- عباد الله- إلا لأضرار الربا وأخطاره الوبيلة، التي يتنادى عقلاء الأمم اليوم بالتحذير منها، ومن آثارها على الأفراد والمجتمعات؛ فإنه فساد في الدين والدنيا والآخرة، وهو استغلال بشع مبني على الشح والطمع، ولكن المرابي زُين له سوء عمله، فرآه حسنًا، فهو من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

فالحذَرَ الحذرَ عباد الله من هذا المرض الخطير، والآفة المهلكة؛ حتى لا تمحق بركة أموالكم، وتخسروا دنياكم وأخراكم. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون! لقد بيّن لنا نبينا ﷺ مواطن الربا، وأين يكون، وكيف يكون؟ ففي مسند أحمد، والبخاري أنه ﷺ قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرُ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».

وهذه الأصناف التي نص عليها رسول الله ﷺ ألحق بها العلماء ما كان في معناها، ودل النهي على أن هذه الأصناف وما في معناها كالنقود اليوم، إذا بيع الشيء منها بجنسه، فلا بد فيه من أمرين:

الأول: القبض من الطرفين في مجلس العقد.

والثاني: التساوي بأن لا يزاد أحدهما على الآخر، فإن اختل أحد الأمرين وقع المتعاقدان في الربا.

أيها المسلمون! وإن مما شاع في معاملات الناس اليوم أخذ الزيادة وتسميتها زورًا وبهتانًا: الفائدة؛ يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين من قرض، أو ثمن مبيع، أو بسبب تفضيل أحد المبيعين على الآخر مما يجري فيه الربا: كالذهب بالذهب، وغيره مما فيه علة الربا، وقد تكون هذه الزيادة مشروطة، وقد تكون متعارفًا عليها، كما هو حال كثير من المعاملات الربوية الشائعة التي اكتوى بنارها كثير من الناس في هذا الزمان.

فمن هذه الصور: الإقراض النقدي من شخص أو مؤسسة مالية لطرف آخر إلى أجل، مع فرض زيادة على هذا القرض تقدر بنسبة مئوية. وكذلك الفوائد التي تؤخذ مقابل تأجيل الديون الحالة على الأشخاص أو المؤسسات إلى أجل، وتتضاعف هذه الفائدة كلما تأخر التسديد.

فهذه الصور من الربا الذي كان الناس يتعاملون به في الجاهلية، ثم جاء الإسلام بالوعيد الشديد عليها، فقد كان أهل الجاهلية يقرضون الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة تزداد كلما تأخر الوفاء، كما كانوا يأخذونها أيضًا مقابل تأجيل الدين الحال إلى أجل آخر، فيقول الدائن لمدينه: إما أن تَقْضِي أو تُرْبي.

عباد الله! وقد اتسعت المعاملات في زماننا اتساعًا كبيرًا، واختلط الحق بالباطل في كثير منها، وكثرت الشبهات، والتبست الأمور على الناس، وقد جاء في مستدرك الحاكم، وسنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله ﷺ قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره».

فمن صور الربا المعاصر أيضًا: أن يقوم بعض الأشخاص أو المؤسسات المالية بتمويل بعض المشروعات العمرانية أو الزراعية أو الصناعية ونحوها بما يلزمها من المواد بسعر السوق وقت العقد، أو الطلب على أن يرد صاحب المشروع للممول هذا المبلغ مع زيادة مقدرة بنسبة مئوية مقابل ذلك.

ومن الصور الربوية أيضًا: بيع عملات الدول المختلفة عملة بأخرى دون تسليم وقبض المبيعين، أو أحدهما في مجلس البيع، وبيع الذهب بالأوراق النقدية دون قبض.
فعلى المسلم أن يجتهد في التحرز لماله إذا أراد الدخول في هذه المعاملة ومعرفة ضوابطها الشرعية، وما يحل منها وما لا يحل. فإن أشكل عليه منها شيء سأل العلماء ليستبرئ لدينه، وليحذر كثيرًا مما يجري من المعاملات التي تسمى بغير اسمها.

كما يجب الحذر من تتبع الرخص، فمن الناس من همُّه تتبع الرخص، فتارة يسأل هذا، وتارة يسأل ذلك، فيجب على المسلم في سؤاله أن يسأل من يثق بعلمه وديانته، لا أن يتنقل بين المفتين، حتى يجد الفتوى التي يأنس لها، ويرغب فيها، فيكون متبعًا لهواه.

فاتقوا الله، عباد الله! في معاملاتكم ومطاعمكم ومكاسبكم، واحذروا كل مكسب خبيث، واطلبوا الرزق من الأبواب الطيبة التي أحلها الله لكم، قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر رسول الله ﷺ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسُه حرام، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك».

فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله في محكم كتابه الكريم حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾