home-icon
غزوة بدر: أحداث وعبر

الخطبة الأولى

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۞ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1-2].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

عباد الله!

في مثل هذه الأيام نصر الله عباده المؤمنين، على القوم الكافرين، نصرًا مؤزرًا، تحقيقًا لوعده وإنفاذًا لعهده:
﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الروم: 47].

في مثل هذه الأيام غير الله مجرى التاريخ، فبعد أن كان المؤمنون قلة مستضعفين، صاروا أولي شوكة وقوة مهيبة، وما ذاك إلا ليظهر الله دينه الحق على الدين كله ولو كره المشركون.

في مثل هذه الأيام وقعت غزوة بدر الكبرى، أول انتصار جماعي للرسول ﷺ ومن معه من المؤمنين على أولئك الطغاة الكافرين.

كان المؤمنون قلة في العدد والعتاد، مقابل جيش عرمرم يحمل السلاح والزاد، فأمد الله عباده بجند من عنده، وانهزم المشركون حينها شر هزيمة، وتقف مع تلك الغزوة العظيمة بعض الوقفات ونستنتج بعض العبر والعظات. فأولى الدفعات:

1- لما خرج الرسول ﷺ ومن معه إلى بدر لم يكونوا على استعداد للقتال، فلما تطور الأمر وخرج المشركون بجيشهم وعتادهم، استشار الرسول ﷺ أصحابه، فقام أبو بكر رضي اللَّهُ عَنْهُ فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي اللَّهُ عَنْهُ فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي اللَّهُ عَنْهُ فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال رسول الله ﷺ خيرًا ودعا له.

وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله ﷺ أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، فقال رسول الله ﷺ: «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار رضي اللَّهُ عَنْهُم، ففطن لذلك سعد بن معاذ قائد الأنصار فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، فقال: أجل، قال: يا رسول الله آمنَّا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.

وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله ﷺ: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاطعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من ومْدان لنسيرن معك، ولئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فسُرّ رسول الله ﷺ لقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم».

الله أكبر، لما أظهر الصحابة مهاجرون وأنصار، استعدادهم التام، وتضحيتهم المطلقة، رغم ما هم فيه من ضعف، إذا برسول الله ﷺ يبشرهم بالنصر، بل كأنه يرى النصر رأي العين. وما أحوجنا لمثل تلك التضحيات في هذه الأوقات.

2- موقف آخر لما وقعت ساعة الصفر، وتشابكت السيوف، التجأ رسول الله ﷺ إلى ربه وتضرع إليه قائلًا: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك»، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها قال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا» وبالغ في الابتهال حتى سقط رداءه عن منكبيه، فرد عليه أبو بكر الصديق رضي اللَّهُ عَنْهُ، وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك.

فأوحى الله إلى رسوله:﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9]،
وأوحى إلى ملائكته:
﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12].

وهذه سنة الله، إذا بلغ الأمر ذروته، وأيقن المؤمنون أنه لا ناصر إلا الله، فالتجؤوا إلى الله وألحوا في التضرع إليه، وبذلوا الأسباب المادية مع عدم اعتمادهم عليها إنما اعتمادهم الكلي على ربهم، أتاهم النصر من عند الله:﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 173] لم يعتمد الرسول ﷺ على أصحابه ولا على قوتهم وتضحيتهم، بل على ربه وحده لا شريك له، فكان ذلك النصر العظيم من عند رب كريم.

3- وقوة أخرى في خضم المعركة والرسول ﷺ يحمس أصحابه ويحرضهم على القتال يقول: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» وقال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»، وحينئذ قال عمير بن الحمام: بخ بخ، فقال رسول الله ﷺ: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال رسول الله ﷺ: «إنك من أهلها»، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منها ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.

لما رأى الجنة أمامه، وأحس بقربها منه، تضاءلت الدنيا عنده حتى صارت لا تساوي شيئًا.

بمثل هؤلاء قام الدين، وانتشر الإسلام، وفتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها في أقل من نصف قرن.

والمواقف العظام من أولئك الصحابة الكرام، يصعب ذكرها كلها، ولا عجب، فإنهم تربية نبينا ﷺ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، لي ولكم ولجميع المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله المتفرد بالثناء، والعظمة والكبرياء، وفّق من شاء فآمن به واستقام، ثم وجد لذة مناجاة ربه والناس نيام، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي بيّن الحلال والحرام، وصلّى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم المقام، أما بعد:

عباد الله!

لقد أقبلت عليكم عشر رمضان الأخيرة، فيها الخيرات والأجور الكبيرة، فيها الفضائل المشهورة والخصائص المذكورة، فمن ذلك أن النبي ﷺ كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها.

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللَّهُ عَنْهَا «أن النبي كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره».

وفي الصحيحين عنها قالت: «كان النبي إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله».
ولهذا كان النبي ﷺ يعتكف فيها، ففي الصحيحين عن عائشة رضي اللَّهُ عَنْهَا قالت: «كان النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم اعتكف أزواجه من بعده».

وفي هذه العشر المباركة ليلة القدر الذي شرفها الله على غيرها، ومنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، حيث قال تعالى:﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]وقال تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3] ولذلك قال فيها ﷺ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».

عباد الله!

إنها فرصة العمر، وغنيمة لمن وفقه الله عَزَّ وَجَلَّ، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة، أن ترى كثيرًا من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل، ويفوتون على أنفسهم خيرًا عظيمًا لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدًا.

فجدّوا واجتهدوا، وشمروا واعملوا: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].

ثم صلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله جل وعلا في محكم التنزيل فقال جل من قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.