home-icon
الاستقامة بين الغلاة والجفاة

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الكريم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، فتقوى الله خير زاد ليوم المعاد، وهي خير ما ادخرتم ليوم التناد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون!

يقول الله جل وعلا، في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۞ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا جَزَآءًۢ بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13-14].

وثبت في صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل آمنت بالله، ثم استقم».

عباد الله! فالاستقامة هي سلوك الطريق المستقيم، وهي الدين القويم من غير تعويج يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الخير كلها.

أيها المسلمون! إن الاستقامة ثبات وانتصار، ورجولة وفوز في معركة الطاعات، والأهواء والرغبات، إنها استقامة بحقها وحقيقتها، والاستقامة: شعور في الضمير، وسلوك في الحياة، والاستقامة والصبر على تكاليفها أمر لا شك كبير وعسير، ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير، صحبة الملائكة وولاءهم، ومودتهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحْزَنُوا۟ وَأَبْشِرُوا۟ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۞ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْـَٔاخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِىٓ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۞ نُزُلًۭا مِّنْ غَفُورٍۢ رَّحِيمٍۢ﴾ [فصلت: 30-32].

عباد الله! أهل الاستقامة لا يصبح الدين عندهم فريسة العابثين، ولا ميدان المتلاعبين، وليس لعبة للمنحرفين، وتقلبات المنافقين، أهل الاستقامة يتواصلون بالدين، لا يحمل بعضهم على بعض ضغينة، ولا تشوبهم ريبة، ولا تسرع إليهم غيبة، في الله يتحابون، وفي دين الله لا يغلون، أو يزيدون، ومهما طال عليهم الطريق، فلغير دين الله لا يدينون، غير ناكثين عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين عن عمل.

عباد الله: إن مقتضى الاستقامة ولازمها أن تكون في منأى عن الغلو والجفاء، وعن الإفراط والتفريط، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان، أو التراخي للعصيان، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112].

فالاستقامة: اعتدال ومضي على المنهج دون انحراف، استقامة تحتاج إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل عن الاتجاه قليلًا أو كثيرًا، ومن ثَمَّ فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة، وذلك أن الأمر بالاستقامة، وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة، التي تحوّل هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط أو غلو.

فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير، وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة لإمساك النفوس على الصراط بلا انحراف إلى الغلو، أو الإهمال على السواء.

عباد الله! يقول بعض السلف: «ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصًا». فكل أمر اتصف بالتفريط أو بالجفاء، فإنه يخالف الاستقامة، وبمقدار اتصافه بأي من هذين الوصفين يكون بُعده عن الوسطية والاستقامة، ولهذا فإن الشيطان يسعى جاهدًا لإغواء بني آدم عن سلوك صراط الله المستقيم، قال تعالى عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16].

قال الطبري: «يقول: لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله، وهو الإسلام وشرائعه».

أيها المسلمون: إن الاستقامة كما فسرها السلف الصالح يتجلى في قول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه): «الاستقامة على الأوامر والنواهي»، وقال ابن القيم: «هي ألا يروغ الإنسان كروغان الثعلب»، وقال عثمان (رضي الله عنه): «الاستقامة إخلاص العبادة لله ﷻ»، فهذه التفاسير وغيرها كلها تُجمع على أن الاستقامة تعني: الاعتدال على أمر الله ورسوله من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير غلو ولا تقصير.

عباد الله! إن الاستقامة ليست محصورة في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن من الأركان، وإنما هي منهج متكامل شامل، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كله استقامة، والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن جوهر الإسلام ومقاصده.

فالإسلام جاء مقررًا لمنهج الاستقامة والوسطية في جميع المجالات التي تتجه بالإنسان إلى الخير، وتقوده إلى الرحمة، وتجعل منه أداة يحق الله بها الحق، ويبطل الباطل.

أيها المسلمون! إن أعلى أنواع الاستقامة: هي استقامة العقيدة، وذلك أن العقيدة هي الأساس، وعليها البناء، فأي انحراف منها يسري إلى ما سواها، ويؤثر فيه، فعقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة وسط مستقيمة بين أهل الإفراط والتفريط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رضي الله عنه): «فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج».

أيها المسلمون! الاستقامة في العبادة بالمحافظة على الفرائض، والاجتهاد في الطاعات والتنافس في الخيرات، والتقرب إلى الله، منهج مستقيم واضح لا غلو فيه ولا شطط، بين من شق على نفسه بالعبادة في رهبانية مبتدعة محرِّمًا على نفسه الطيبات ومانعًا لها من الملاذ، وما فطرت عليه النفس من الزواج والمال، وهؤلاء يمثلهم رُهبان النصارى، وغُلاة الصوفية، فهؤلاء أفرطوا وغلوا، وخرجوا عن سواء السبيل.

والطرف المقابل لهؤلاء الذين انساقوا وراء الشهوات، واعتبروا الحياة هي الغاية والنهاية، فأغرقوا في الشهوات، وعبدوا الماديات، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، وارتموا في أحضان النفعية المادية، فهؤلاء فرطوا وضيعوا وضلوا عن سواء السبيل. فاتقوا الله عباد الله واستقيموا على طاعته وطلب رضاه، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

أيها المسلمون! ومن الاستقامة: الاستقامة في الأخلاق فلا إفراط فيها ولا تفريط.

هذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويقل فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوًا أو جفاء، إفراطًا أو تفريطًا.

سئلت عائشة (رضي الله عنها) عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: «كان خلقه القرآن» [رواه مسلم]، فالإسلام وسط بين الكبر والطغيان، وبين الضعف والخور والخذلان، ووسط مستقيم بين الإنفاق والبذخ، وبين البخل والشح، ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].

وكذلك الإسلام – عباد الله- وسط مستقيم في باب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو منهج يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، ينظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط ﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ﴾ [الأعلى: 9] فلا إفراط، ولا تفريط، ولا عنف، ولا غلظة منكرة، ولا خنوع، أو رضا بالمنكر، ومباركة له ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].

فاللين والإغلاظ أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه، كما قال الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعـلا                            مضر كوضع السيف في موضع النـدى

عباد الله! من الخبر العظيم أن نتحرى الاستقامة على منهج القرآن والالتزام بها في جميع المجالات، حتى لا تزل العقول والأقدام، فنقع في الغلو والإفراط نتيجة الحماس غير المنضبط، أو الوقوع في التفريط والتهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد                                كلا طرفي قصد الأمــور ذميــــم

أيها الأكارم! يجب أن تميز الأمة بين الاستقامة والتدين الذي يمثل وسطية الدين، وبين المناهج والأفكار التي سلكت غير سبيل المؤمنين، كما تميز بين الصورة والحقيقة، هناك من يفهم الاستقامة على أنها مجرد مظاهر وشكليات وطقوس، ويقيسون تدينهم وتدين الآخرين بالحفاظ على هذه الشكليات، أما جوهر الدين وترجمته إلى سلوك في الحياة، فهذه أمور لا تشغل بال هؤلاء الذين جعلوا من الدين جسدًا بلا روح، ولفظًا بلا مضمون.

إخوة الإسلام! يجب أن تكون الاستقامة مبنية على علم صحيح، وفهم سليم من القرآن الكريم والسنة النبوية؛ لنقضي على المفاهيم المغلوطة التي تسود حياة كثير من الناس فيقعون في الغلو أو التنصير مبتعدين عن منهج الاستفادة.

عباد الله! إن الاستقامة والتدين هي العلاج الناجع لمشكلات الأمة بجميع ضروبها: ﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] لقد دعا رسول الله ﷺ إلى الإسلام دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا، وما دام هذا الصراط مستقيمًا، فإنه لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه.

أيها المسلمون! إن أعظم مهمة في هذا العصر تغذية منابع الاستقامة وترسيخ العقيدة والمنهج الوسط، فالشاب بلا عقيدة لا تطيب له حياة، ولا تستقيم أموره، بل يجرفه التيار أينما سار، فهو مرّة متشدد، وتارة متردد، وطورًا متبدد، قليل الخير لنفسه ولمجتمعه ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]. فالله الله بالتمسك بمنهج الله ﴿ﷻ﴾ ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل حيث قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].