home-icon
حقوق الوالدين وبرهم

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، قضى بالإحسان إلى الوالدين، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصيها دفاتر الحسابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ﷺ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله اتقوا الله تعالى، فإن تقواه سبب للنجاة من عقابه، واعلموا أن الله أوجدنا في هذه الحياة، وكلفنا بالقيام بحقوق كثيرة، فمن قام بها وأداها فاز ونجى، ومن قصّر وتخاذل فقد عرض نفسه للخطر والهلاك، وإن من أوجب الحقوق وأعظمها حقوق الوالدين.

أيها المسلمون!

إن حق الآباء والأمهات على الأبناء عظيمة، ولا يستطيع إنسان أن يحصيه أو يقدره، فلقد قرن الله تعالى حقوقهما بحقه حيث قال جل وعلا: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]ويقول سبحانه: ﴿وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًٔا وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًۭا﴾ [النساء: 36].فالأم قد تحملت آلام الولادة والرضاعة، وسَهَرَ الليلُ وَتَعَب النهار، تقوم بحملها مثقلة، وتقعد مثقلة، تضيق – في أول الحمل بالطعام والشراب – أحشاؤها، وتضعف عند الوضع أعضاؤها، وتجوع ليشبع وليدها، وتسهر لينام، وتتعب ليستريح، وتترك كثيرًا مما تشتهيه خشية أن يتغير لبنها؛ فيمرض وليدها، يرقص قلبها فرحًا إذا ضحك، وترى الحياة كلها نورًا وجمالًا، وهي تراه يلعب مع الصبيان أو يذهب إلى المدرسة، وتحزن حزنًا شديدًا إذا حزن وليدها أو أصيب بوعكة، وهكذا تعيش له ومعه، وهي تنتظر الأيام الحاسمة في حياتها حين تراه ينجح ويكسب ويتزوج، وترى الأب متعبًا، ويفني حياته وجهده وتفكيره ووقته ليتحصل على لقمة العيش لأولاده، يسافر هنا وهناك، ويتعب أول النهار وآخره، ويتابع نموهم، ويقوم على تربيتهم، وينتظر الساعة التي ينظر فيها إليهم رجالًا كبارًا تقر عينه بهم.

أيها المسلمون!

لقد أوجب الإسلام على الأبناء البر بالآباء والأمهات، وحَذَّر من العقوق، كما نبه الإسلام على أن مراعاة الأبوين أمر واجب، ومهما أذل الإنسان نفسه لأبويه، فإن ذلك مدعاة لحب الإله ورضاه عنه؛ فرضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين، والناس يُكبرونه ويمدحونه، ويجعلونه بينهم مثلًا طيبًا يضربونه لأبنائهم، إذ يرونه بأعينهم الإنسان البار الذي يرضى الله عنه، ويرضى عنه أبواه، ويدعوان له في كل حين. أما صاحب القلب القاسي الذي يصانع الناس بلين الكلام، ويختار الأحجار الكلامية لأبيه وأمه، ويبش في وجوه الناس، ويعبس في وجه أبويه، يذل أمه ويبكيها، ويعز زوجته ويرضيها، يدخل على زوجته وأولاده بكل شهي من الطعام والشراب ولا يبالي بكبيرين محرومين يشتهيان ما يشتهي الناس.

أيها المسلمون!

إن دمعة الأبوين بسبب ظلم الأولاد يجعلها الله عليهم سخينة يجدون ألم حرها فيما يستقبلون من دهرهم. ولا بد أن يلقى العاق من ذريته مثلما فعل بأبويه، والله غالب على أمره؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وعلى الباغي تدور الدوائر. ورد في الحديث: «بروا آباءكم تَبَرَّكم أبناؤكم، وعفوا تعفَّ نساؤكم».

أيها المسلمون!

اسمعوا قول الله تعالى:
﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا ۚ إِمَّآ يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًۭا كَرِيمًۭا ۞ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًۭا﴾ [الإسراء: 23-24]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله ﷺ، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» رواه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون!

ومن أكبر البر بهما أن تبذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال، فالإحسان بالقول: مخاطبتهما باللين واللطف مستصحبًا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم، وكذلك الدعاء لهما بالتوفيق والصحة والعافية والمغفرة من الذنوب. والإحسان بالفعل: أن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك. والإحسان إليهما بالمال أن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك، منشرحًا به صدرك، غير متبع له بمنة ولا أذى، بل تبذله لهما وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.

والبر كما هو أحب للأبوين في حياتهما، فلهما حق البر بعد موتهما، وذلك: بالاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما- يعني وصيتهما- من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما. رواه أبو داود.

ومن البر بهما الحرص على نصحهما، وطلب هدايتهما بالحكمة والقول اللين، وبإقناعهما مهما عنفا عليك، اسمعوا قول إبراهيم لأبيه في قوله تعالى: ﴿يَـٰٓأَبَتِ لَا تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ ۖ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيًّۭا ۞ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌۭ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيًّۭا﴾ [مريم: 44-45]. فليكن نبي الله إبراهيم عليه السلام قدوتنا في المخاطبة للوالدين بهذه الدعوة اللطيفة بالحكمة والموعظة الحسنة.

أيها المسلمون!

إن بر الوالدين سبب لإرضاء الله تعالى، فقد روى الترمذي، عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: «رضى الرب في رضى الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين».
وبر الوالدين سبب لمغفرة الذنوب، ودخول الجنة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «كذلكم البر.. كذلكم البر.. وكان أبر الناس بأمه». وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاضعْ ذلك الباب أو احفظه».

وروى الإمام أحمد وغيره، عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك.
فقال: «هل لك أم؟» قال: نعم. قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجلها».

واعلموا أن أجر الأم مضاعف على أجر الأب لما تلاقيه من المعاناة منذ بداية الحمل إلى أن ينعم ويكبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك». متفق عليه.

فاتقوا الله وبروا آباءكم وأمهاتكم تبركم أبناؤكم وبناتكم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ﷺ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون!

الحذر الحذر من عقوق الوالدين، يقول تعالى:
﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا ۚ إِمَّآ يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًۭا كَرِيمًۭا﴾ [الإسراء: 23]. والمراد بالعقوق: صدور ما ينافي بر الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية.

واعلموا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، روى البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ قال:
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا. قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين…».

عقوق الوالدين سبب للحرمان من دخول الجنة، وموجب لسخط الله تعالى،
روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاثة قد حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله».

وفي رواية: «لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر».

والعقوق سبب لتعجيل العقوبة، فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«كل الذنوب يغفر الله منها ما يشاء، إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه قبل الممات».

أيها المسلمون!

ولمعاينة ما يلاقيه الأب من الابن، إليكم هذه القصة التي ذكرها الإمام القرطبي في تفسيره، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال:«جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي.فقال النبي ﷺ: فأتني بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي ﷺ فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه.
فلما جاء الشيخ، قال له النبي ﷺ: “ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟”
فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقت إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسه؟
فقال له رسول الله ﷺ: “إيه، دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك“. فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله يزيدنا بك يقينًا، لقد قلت في نفسي شيئًا ما سمعته أذناي. قال: قل، وأنا أسمع. فقال: قلت:

       غدوتك مولودًا ومنتـك يافعـًا                تعل بما أجني عليك وتنهل
 إذا ليلة ضافتك بالسقـم لم أبت          لسقمك إلا ساهرًا أتململ
       كأني أنا المطروق دونك بالذي           طرقت به دوني فعيني تهمل
     تخاف الردى نفسي عليك وإنها         لتعلم أن الموت وقت مؤجل
     فلما بلغت السن والغاية التي          إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
       جعلت جزائي غلظة وفظاظة           كأنـك أنـت المنعــم المتفضّـل
            فليتك إذ لم ترع حق أبوتي             فعلت كما الجار الملاصق يفعـل
 فأوليتني حق الجوار ولم تُكـن         عليّ بمال دون مالك تبخل

قال: فحينئذٍ أخذ النبي ﷺ بتلابيب ابنه، وقال: «أنت ومالك لأبيك».

واعلموا أيها المسلمون! أن الجزاء من جنس العمل. إليكم هذه القصة الواقعية لأحد الأطفال:
قال الابن لأبيه: زوجتي لا تريدك في البيت. وهذا الأب قد عمل واجتهد لكي يرى ابنه، ولم يتزوج لأجله حتى لا يتسبب له في متاعب، وها هو اليوم يسمع هذه الكلمات التي نزلت عليه كالصواعق من ولده، ينظر الأب والدموع تنهمر من عينيه، والابن تبدو عليه أمارات الظلم، وقد أنذرته زوجته أنها ستترك البيت إن لم يطرده، وهي امرأة جميلة يحبها، ولا يستطيع مفارقتها. فقال الأب لابنه وهو يبكي: إن الشتاء قارس البرودة، وأريد شيئًا أتدثر به،فأمر الابن ابنه الذي يقف يستمع إليهما أن يأتي بالعباءة الموجودة في المخزن، غاب الحفيد وقتًا، ثم جاء بنصف العباءة للجد، فصرخ الوالد في وجه ابنه: ألم أقل لك أن تأتي بها على هيئتها؟ فرد الحفيد على أبيه مسرعًا: لقد ادخرت النصف الآخر يا أبت حتى إذا ما بلغت سن جدي أعطيتك النصف ورحلت عني! سمع الأب ذلك، وعلم أن الدائرة ستدور عليه في يوم من الأيام، فأخذ يبكي كالطفل، قائلًا لأبيه: اغفر لي زلتي. فاحتضنه الأب، واحتضن الحفيد، فالأب الرحيم لا يعرف القسوة حتى وإن ظلم.

فاتقوا الله عباد الله، وبروا أمهاتكم وآباءكم تبركم أبناؤكم وبناتكم، ونشِّئوهم التنشئة الصالحة، وربُّوهم التربية الإسلامية، فإنه لا يجني ثمارها إلا أنتم، وأكثروا من الدعاء لهما، فإن دعاء الولد في حق والديه مستجاب.

وصلوا وسلموا على معلمنا وقدوتنا نبينا محمد ﷺ، كما أمركم الله جل وعلا بقوله:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا﴾