home-icon
صورتان للقدوة (2)

الخطبة الأولى

الحمد لله خلق الإنسان من طين، وكرمه بهذا الدين، أحمده سبحانه، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم فكونوا من المفلحين.

أيها المسلمون!

تحدثنا في الجهة الماضية عن صورة للقدوة تمثل الشاب المسلم أما الصورة الثانية فهي صورة الفتاة المسلمة التي تمثلت، في المرأتين اللتين تذودان، وسقى لهما موسى(عليه السلام)، فقد سطرت الآيات صفة الفتاة المسلمة الحقة، وقد رسمت من خلالها المنهج الحق فيما يجب أن تكون عليه الفتاة المسلمة والمرأة المؤمنة، قال الله تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ يعني جاءت تمشي مشية الفتاة العفيفة الواثقة من نفسها، من غير تبرج ولا سفور ولا إغواء، وهذا هو شأن المرأة المسلمة في حلها وترحالها، والحياء من معالم الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: «فإن الحياء من الإيمان» رواه البخاري.

وإن الحياء من أهم أسباب استقرار الأمم وتنعمها بالخيرات والبركات، فحيثما حل الحياء حلّت معه نعم الله وآلاؤه، وتحل الفضيلة، وتسود الأخلاق، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الحياء لا يأتي إلا بخير» رواه البخاري، وهذا يعني أن انتزاع الحياء من أية أمة يعني انتزاع البركة والوئام والأخلاق والفضيلة، كما هي حال بعض الأمم الأخرى.

أما الصفة الأخرى، فهي خروجهن لحاجة:

فلم يكن خروج هاتين المرأتين من البيت إلا لسقي الأنعام، ولم يكن حديثهما مع موسى إلا لضعف أبيهما الشيخ الكبير الذي لا يقدر أن يقوم بسقي الأنعام، وإلا فالأصل أن المرأة تبقى في بيتها، ولا يخرج إلا من يتولى أمرها، ولم يكن هذا الكلام متجاوزًا للآداب والأخلاق، لأنهما وقفتا بعيدتين عن الرجال حتى ينتهوا من السقي، ولم يمنعهما من ذلك إلا الأدب والإيمان اللذين تربيا عليه على يد الشيخ الكبير.

وهذا المَعْلَمُ العظيم يقرر الأصل بالنسبة للمرأة: أن عملها في بيتها، وأنها لا تعمل خارج بيتها إلا لحاجة لا تقوم إلا بها، مع ضوابط هذا الخروج من الحياء وعدم الاختلاط بالرجال، فهل يفقه مثقفونا وكتابنا الذين يرمون الكلام على عواهنه، فيكون كل منهم مشرعًا متعديًا على شرع الله، فما بال أقلام زلت وانحرفت عن الصراط المستقيم هذه الأيام على صفحات الصحف.

والمَعْلَمُ الثالث الذي سطرته هذه الآيات هو: البعد عن مواطن الفتنة:

يقول تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۞ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 23- 24].

كانت هذه المرأة وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومزاحمة الرجال، والاحتكاك بهم على الماء، لأن هذا العمل بطبيعته من شأن الرجال، وليس من شأن النساء، وكانتا تريدان العفة، والستر في التخلي من هذا العمل الذي يفرض عليها الاختلاط، والاحتكاك مع الرجال، وهذا دليل على عفة القلب والنفس؛ لأن هذه المزاحمة تسبب لهما خدشًا في هذه العفة، وهذه النظافة الروحية.

والبعد عن مواطن الفتنة يعني الابتعاد عن الاختلاط بالرجال لغير ضرورة شرعية، لأن من أولى بوادر الفساد والتحلل في المجتمعات هو الاختلاط الذي يحدث بين الرجال والنساء، ومعلوم ما يترتب على هذا الاختلاط من آثار خطيرة تعيشها الآن مجتمعات الاختلاط، وبالتالي الوقوع في مستنقع الفواحش الآسن، وقد حذر الله تعالى نساء الأمة من ذلك في آيات كثيرة، كما في قوله: ﴿﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59].

وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 30، 31]، ومن هنا فقد سد الإسلام طرق الفساد وذرائعه مهما كانت في أعين الناس صغيرة.

أيها المسلمون!

هذه هي المعالم الأساسية التي سمتها تلك الآيات، وهذا هو المنهج الحق للمرأة المسلمة في المجتمع المسلم، وها هي صورة أخرى للمرأة، هذه الصورة الرائعة للمرأة المؤمنة التي تقاوم ملذات الدنيا ومغرياتها في سبيل الحفاظ على كرامتها وعفتها، ومن أجل أن يرضى الله عنها.
ومن تلك النماذج امرأة فرعون ومريم ابنة عمران حيث قال فيهما الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًۭا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ۞ وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَٰنَ ٱلَّتِىٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَـٰنِتِينَ﴾ [التحريم: 11- 12].

كانت تلك بعض الصفات التي ميّز الله تعالى بها المؤمنات من غيرهن من النساء، ولكن دعاة التغريب والناعقين له لم يتركوا المرأة المسلمة في حالها، فهم ينادون بخروجها لتعمل كالرجال ومع الرجال في جميع الميادين، وهم لا يريدون لها هذا العمل لمصلحتها، أو لحاجة العمل إليها، وإنما يريدون أن يكسروا الحاجز بين الرجل والمرأة، ويدمروا الحصن الواقي لكرامتها وعفتها الذي بناه الإسلام لها، وإلا كيف ننادي أن تقوم المرأة بأداء أعمال الرجال؟ وفي وقت لا يزال الغرب يدفع ضريبة باهظة جراء خروج المرأة إلى العمل مثل الرجل.

يقول تعالى: ﴿يَـٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍۢ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ۚ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِۦ مَرَضٌۭ وَقُلْنَ قَوْلًۭا مَّعْرُوفًۭا ۞ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًۭا﴾ [الأحزاب: 32 -33].

وإذا كان هذا الأمر لنساء النبي ﷺ وهن أمهات المؤمنين فغيرهن من باب أولى فليتق الله النساء، وليقتدين بتلك القدوات وليحذرن من أصحاب وصاحبات الهوى والمتبعين للأعداء، وليتق الله أولياؤهن فالأمر جد خطير.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

أيها المسلمون!

لا يعني أن ما قلناه في الخطبة الأولى نعادي عمل المرأة المسلمة، بل نريد لها أن تعمل ضمن الضوابط الشرعية التي تضع الأمور في نصابها، بحيث توفق بين عملها الشرعي خارج البيت، وبين تربية أبنائها، والقيام وبواجبها الأسري داخل البيت، فلا يكون عملها خارج البيت على حساب تربية أبنائها، كأن تعمل طول النهار، وتترك تربية الأبناء للخادمات والمربيات.

نريد أن تعمل في المجالات التي تتعلق بالنساء، ونريد لها أن تكون داعية، وتكون لها مراكز خاصة لها لتعليمها أحكام دينها، ونريد أن تكون مربية، وطبيبة للنساء، وممرضة للنساء، ومشرفة اجتماعية للنساء، وفي محيط النساء، هذا هو شرع الله.

أيها المسلمون! من الغبن الفاحش أن نستمد نظمنا وقوانيننا من الملل الكافرة، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من ذلك بقوله: «كفى بقوم ضلالا أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم، أو كتاب غير كتابهم» سنن الدارمي.

وقوله ﷺ: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن»؟ رواه البخاري.

إن الأمة بحاجة إلى المرأة المسلمة التي تصون نفسها بقيم الإسلام ومبادئه، وتحافظ على حجابها وكرامتها وتحميها من الذئاب البشرية، كما حافظت عليه ابنتا الشيخ الكبير، وإن الأمة بحاجة إلى المرأة القابضة على دينها كما كانت امرأة فرعون، وهي في بيت أكبر طاغية، إن الأمة بحاجة إلى المرأة التي تتعلم الدين وأحكامه، وتصبح داعية تعلم مثيلاتها مـن النساء أمور دينهـم كما كانت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها).

بصّر الله الجميع بالحق ودلهم عليه، ووقانا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه كما أمركم الله جل وعلا في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].