
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، خلق الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء خُبرًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أعلى الناس منزلة وأعظمهم قدرًا ﷺ وبارك، عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا.
أيها المسلمون! إن شأن الأسرة في الإسلام عظيم، وأمرها كبير، اعتنى بها الإسلام، فهي محل للسكن والقرار، وهدوء النفس والبال، والراحة والاستقرار. والأسرة: مأوى الفرد وسكنه، وظله ومأمنه تلتقي النفوس، على المودة والرحمة، والحصانة والطهر، وكريم العيش والستر، وفي ظل الأسرة تنشأ الطفولة، وتترعرع الناشئة، وتمتد وشائج القربى، وتتقوى أواصر التكافل، وفي جو الأسرة تلتقي النفوس بالنفوس، وتتعانق القلوب بالقلوب، وفي ظل الأسرة تنمو الخصال الكريمة، وينشأ الرجال الذين يؤتمنون على أعظم الأمانات، ويُربى النساء اللاتي يقمن على أعرق الأصول، ويُرَبِّيْنَ الأجيال على أكرم الشمائل والخصال، ففي محيط الأسرة يتخرج الأبناء والبنات، وتتعلم الذرية، وتنمو الأخلاق والخلال الحميدة، وفي مدرسة الأسرة يتخرج العلماء الأفذاذ والمصلحون، الذين ينفعون أنفسهم ووالديهم وأمتهم.
ونواة الأسرة الزوجان، فإذا كانا عاملي صلاح وتقى؛ كان المجتمع كذلك بإذن الله تعالى، فكان مجتمعًا صالحًا قويًا متماسكًا، له شخصيته المتميزة، وصفاته المحمودة، يحمي نفسه ويهابه أعداؤه، ولا تتسلل إليه دعاوى المبطلين ودسائس المضلين.
أيها المسلمون! وأهم أركان الأسرة الزوج والزوجة، فالعلاقة بينهما تختلف عن غيرها، إذ إن كل واحد منهما يعرف خصوصيات الآخر وأسراره، فإذا ما اختلَّت العلاقة بينهما نشر ما بينهما من مشكلات وخلافات، فكان ذلك سببًا في تفكيك الأسرة، وانحلال روابطها المتينة، ومن ثم يتسلل إليها كل سوء وشر، وتتعدى عدوى هذا السوء إلى المجتمع، فيتأثر به. وأسرار الأسرة مصونة محفوظة، إذا قام كل من الزوجين بما عليه من حقوق وواجبات.
لهذه الأمور وغيرها، نظَّم الإسلام الأسرة أيما تنظيم، وفصَّل في الحقوق والواجبات؛ لتكون كل أسرة مسلمة صالحة مستقيمة- بإذن الله- تخرج الصالحين المستقيمين. وأول تلك الحقوق: العِشْرة بينهما بالمعروف، والعشرة: أن يكون بين الزوجين الألفة والوفاق، والاجتماع، وحسن المعاملة، والمحبة، والرحمة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
قال الحافظ ابن كثير (رحمه الله ): «أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله». وقال تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، قال القرطبي (رحمه الله): «أي: لهن من الحقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن»، وقال ابن عباس (رضي الله عنه): «أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه عليهن من أزواجهن».
والمعروف: كلمة جامعة لمعاني الخير والأدب، وحسن المعاملة. قال رسول الله ﷺ – فيما صح عنه- «واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خلقـن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج» وصح عنه ﷺ أنه قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
وقد كان رسول الله ﷺ جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسع عليهم بالنفقة، ويضاحك نساءه، ويساعدهن في أمور المنزل، فسيرته ﷺ تطبيق عملي لتشريع الإسلام للعلاقة الوطيدة بين الزوج وزوجته، الذي بيَّنه ربنا، سبحانه وتعالى، بقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وإن من أهم مقومات العشرة الطيبة:
حسن الاختيار لكل من الزوج والزوجة؛ لأن كلًا منهما سيكون شريكًا للآخر، وحسن الاختيار يتم بالنظر في المواصفات الشرعية التي حددها الإسلام في الرجل المرأة، وهي الدين، والخلق، فقال رسول الله ﷺ في شأن المرأة: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»، وقال ﷺ في شأن الرجل «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد».
من عوامل العشرة بالمعروف: قيام كل من الزوجين بالحقوق الواجبة عليه دون نقص أو خلل، فإذا ما اجتهد كل منهما بتنفيذ الواجبات عليه كان هذا عاملًا للعشرة الحسنة في هذا الجو الأسري الكريم.
ومنها أيضًا: صلاح كل منهما، وقيامه بالواجبات الشرعية تجاه ربه سبحانه وتعالى، فإذا ما قويت العلاقة بين العبد وربه أضفت عليه جوًا من الراحة والهدوء ووزن الأمور بميزانها الشرعي الصحيح.
ومنها أيضًا: تطهير البيت من المنكرات والأخطاء والمنغصات، التي تكون عامل تشويش، وسببًا من أسباب تعكير الجو العائلي، الذي يفسد على الأسرة بأكملها ما تعيشه من أمن وراحة وهدوء واستقرار؛ لأن تلك المنكرات والأخطاء سبب لولوج الشيطان في البيت، وما دخل الشيطان مكانًا أو استحوذ على إنسان وتمكن منه، إلا أفسد عليه دينه ودنياه.
أيها المسلمون!
إن استشعار كل من الزوجين لهذه الحقوق، يضفي على الأسرة جوًا كريمًا، ويتذكر فيه كل عضو في الأسرة الحقوق الواجبة عليه، فيقوم بها ابتغاء مرضاة الله.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك نفعني الله وإياكم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرع الزواج لمقاصد جليلة، وغايات وحكم نبيلة، أحمده سبحانه على نعمه وآلائه الجزيلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وكل من سار على منهاجه.
أيها المسلمون: ومن الحقوق المشتركة بين الزوجين:
حق الاستمتاع، وما يتبع ذلك من التجميل والتطيب، وإزالة الروائح الكريهة، والعناية باللباس وزينته، فالمشروع لكلا الزوجين مراعاة ذلك، والاهتمام به: فهو مما يحبب المرأة إلى زوجها، ويحبب الرجل إلى زوجته، وفيه إعفاف لكل منهما عن التطلع إلى ما حرم الله تعالى، وفيه غض البصر عما لا يجوز النظر إليه، ويقول ابن عباس (رضي الله عنه): «إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي».
ومن الحقوق المشتركة أيضًا: المحافظة على أسرار الزوجية، فمن المعلوم أنه لا يخلو بيت من مشكلة أو مشكلات، ولا يخلو منزل من بعض المنغصات، فحياة الإنسان فيها شيء من ذلك، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]. وقلما تجد عشرة أو شراكة صافية، أو خالية من جميع ما ينغص عليها، فكل علاقة في الوجود كذلك، ولكن ميزة علاقة المسلم مع غيره- وبخاصة علاقة الزوجين- أن الأسرار محفوظة، والعيوب مستورة، والمشكلات محلولة- بإذن الله تعالى- فإذا وقعت مشكلة سارع الزوجان إلى النظر فيها وحلها، وعدم إفشائها، حتى بين الأولاد والبنات.
فالزوجان الحكيمان هما اللذان يتعاونان على مناقشة ما يقع بينهما من اختلاف في وجهات النظر، وحل ما يكون بينهما من مشكلات، ويتفاهمان في أمور الزوجية التفاهم الحسن، ويتعاونان على إخفاء تلك الأسرار والمسائل، فخروج تلك الخلافات والأسرار له تأثيره السلبي عليهما وعلى أولادهما؛ إذ يؤثر على تكوين شخصياتهم، فلا يثقون بوالديهم، فلا يجوز البوح بتلك التصرفات والمشكلات، ولا إظهارها، فبقاؤها في حيز ضيق بينها عامل من عوامل سعادة البيت وصيانته من كل انحراف وشر، واستقراره وطمأنينته، بإذن الله تعالى.
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن رسول الله ﷺ قال: «إن من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها»، فمن مجانبة الصواب أن يعمد الزوجان، أو أحدهما على إظهار الخلافات العائلية بين الأولاد والأطفال، فيترافعان الأصوات، ويتبادلان التهم، على مرأى ومسمع من أبنائهم وبناتهم، وما علم أولئك- هداهم الله- أن هذا الأمر من أشد الأمور على الأطفال، إذ يذيب شخصيتهم، وتنشأ المشكلات معهم، ويفتقدون العاطفة تجاههم، بل يكون الوالدان قدوة سيئة لهم فيكرهونهم، ويبغضونهم، فلا يسمعوا توجيههم وإرشادهم ونصائحهم.
ويشتد الأمر خطورة إذا أطلق كل من الزوجين أو أحدهما لسانه بين الزملاء والأصدقاء والأقارب في بيان عيوب الآخر، وما عمله من السلبيات والسيئات تجاهه، فينتشر ما وقع بينهما، ويفرح به أولئك الذين ندبوا أنفسهم للإفساد بين الناس، فيصاغ بصياغة تختلف عن حقيقته، أو التشاحن والتباغض، ويكفي أن يخلف جوًا من التعكير النفسي الذي يمتد أثره عليهم وعلى أولادهما.
ومن الحقوق المشتركة أيضًا: التناصح بينهما في كل ما فيه خيرهما وسعادتهما في الدنيا والآخرة، فدين الإسلام دين الخير والحق والفضيلة، ودين يسعى بأهله إلى أن يسعدوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ودين يحث على التعاون وعلى البر والتقوى، ودين يرشد أهله إلى أن يتمتعوا بالخيرية المطلقة التي جعلها الله، سبحانه وتعالى، لهذه الأمة، هذا هو دين الإسلام، وهذه صفة المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكيف إذا كان الآخر هو زوج أو زوجة؟ فيجب أن تقوم العلاقة بينهما على أساس من هذه المحبة والمودة التي تورث حب النصيحة في الحق والخير والإرشاد إلى ما فيه الصلاح.
ومن صور التعاون على ذلك: التعاون على طاعة الله، وما يقرب إلى مرضاته، روى الإمام أحمد، وأبو داود- بسند جيد- أن رسول الله ﷺ قال: «رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل، فصلَّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء».
ومن صور التعاون والتناصح: تشجيع كل منهما للآخر على ما فيه خير وهدى، كتشجيع الزوجة زوجها على بر والديه، والقيام بحقوقهما، وعدم عقوقهما، ورعاية شؤونهما، وتفقد أحوالهما، والاهتمام بهما، وعدم الغفلة عنهما، والسعي في مصالحهما، وكذلك صلة أرحامه وأقاربه، وحثه على ذلك، وكذا تشجيعه على القيام بوظيفته، ومهنته التي يقوم بها، وتهيئة السبل والوسائل لإنجاحه في عمله ووظيفته، فإن نجاحه في ذلك نجاح لها، وأجر وخير في الدنيا والآخرة، ومردود ذلك لها ولأولادها.
أيها المسلمون! إن صلاح الأسرة طريق لأمان المجتمع كله، وهيهات أن يصلح مجتمع وَهَتْ فيه حبال الأسرة، وانقطعت أو ضعفت، وإن الشيطان حين يفلح في فك روابط الأسرة فهو لا يهدم بيتًا واحدًا، ولا يحدث شرًا محدودًا، وإنما يوقع المجتمع بأسره في أذى مستعر، وشر مستطير.
فاعملوا- وفقني الله وإياكم- على تطبيق شرع الله، واقتفاء هدي رسوله ﷺ فذلكم هو السبيل إلى تماسك الأسرة، وقوة رابطتها، وأغلقوا المنافذ عن الشيطان تفلحوا في دنياكم وأخراكم، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، حبيب رب العالمين، كما أمركم الله جل وعلا في محكم التنزيل بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

في مقدم رمضان
الخطبة الأولى الحمد لله خلق فقدر، وملك فدبر، وشرع فيسّر، وخصّ الصيام بالإفطار وأكلة السحر، بيده تصريف الأمور، أحمده سبحانه...

سنة التغيير
الخطبة الأولى الحمد لله الذي بيده مقاليد كل شيء، فجعل دوام الحال من المحال، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وأفضاله...

توحيد الله في أسمائه وصفاته
الخطبة الأولى الحمد الله القائل: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ...

من أنصار المرأة
الخطبة الأولى الحمد لله خلق الناس من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها، أحمده سبحانه، وأشكره على نعمه التي...

أسباب الهزيمة والنصر
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، وعدهم بالنصر المبين، وتوعد الكفار بالعذاب المهين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله...