home-icon
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين، والآخرين، وأشهد أن نبينًا محمدًا عبده، ورسوله، وصفيه، وخليله، وصفوته من خلقه، قائد الغر المحجلين، صلى الله، عليه وعلى آله، وأصحابه الطيبين الطاهرين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتعاونوا على البر والتقوى، وقوموا بعبادة ربكم في الجهر، وما يخفى، وتجنبوا المنكرات في السر، والنجوى، تفلحوا في الآخرة، والأولى.

أيها المسلمون! تحدثنا في جمعة سابقة عن أهمية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ﷻ، وعرفنا أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وظيفة الناس أجمعين، ومهمة الصالحين، وأبرز صفات المؤمنين الصادقين، والعلامة الفارقة بين الموحدين، والمنافقين، وفعله والقيام به سبب للفلاح، والنجاة يوم الدين، وتركه وإهماله سبب لعقوبة الناس أجمعين، كما حدث في عصور السالفين، قال تعالى في قصة أصحاب السبت عن الفرقة الناهية: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164] ومع هذا كله، فلن يعدم الداعي استجابة، ونفعًا من أمره، ونهيه، فالذكرى تنفع المؤمنين.

أيها المسلمون! ومن الملاحظ على كثير من الناس أنهم يدعون أن الإنسان يهتم بنفسه فقط، فإذا استقام، واهتدى، فلا يهمه أمر الآخرين أضلوا أم اهتدوا، نجوا أو هلكوا؟ ويستدلون بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 105]. وهذا بلا شك تصور خاطئ، وقصور في الفهم، واستدلال في الآية في غير موضعها، فمن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لم يهتد، ولما خشي أبو بكر (رضي الله عنه) أن ينتشر هذا المفهوم الخاطئ قال(رضي الله عنه): يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» وفي رواية أبي داود قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك الله أن يعمهم بعقاب».

أيها المسلمون! إن الناظر في حال كثير من المسلمين يجد ممارسات عملية لكثير من المنكرات، ولا يتحرك فيهم ساكن، كالشرك بالله ﷻ من مثل دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم من دون الله ﷻ، أو اللجوء للأموات، والقبور، والأضرحة وغير ذلك من الأمور الشركية الصريحة، وكذا تجاه بعض الأمور الكفرية، كالاستهزاء بالدين، أو بالرسول ﷺ والناهين عن المنكر، وترك الصلاة عمدًا، أو كبعض الأمور الكبيرة كالتعامل بالمحرمات كالربا، والغش، والخداع، وصرف الأموال في غير مصارفها الشرعية، أو السخرية بالعلماء والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكذا التساهل في الأمور المنزلية من تربية الأولاد من بنين، وبنات، وتنشئتهم أحيانًا على شبهات في الدين، أو شهوات في النفوس، وجلب الأشياء التي تنشئهم على حب الرذيلة، وميوعة التصرفات، فينشؤون نشأً غير صالح، وكذا ما يعاش في الأسواق، والشوارع من انتشار المجلات الساقطة، ونحوها التي تأمر بالمنكر علانية، وتنهى عن المعـروف، وكذا المنكرات الفكرية مما ينشر ما يخالف الإسلام، ويشكك في الدين، ويسهل المنكر، وكذا ما يتصل بالفحشاء من تبرج، وسفور، وتساهل في الخروج من المنزل، وغير ذلك من المنكرات العظيمة التي تغضب الله، جل، وعلا، وتسبب الفرقة، والخلاف، والشقاق، والعقوبة على الفرد، والمجتمع عاجلًا أم آجلًا.

فاتقوا الله عباد الله! ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر في أنفسكم، وفي بيوتكم، وفي مؤسساتكم، وما وقع ما وقع من تفشٍّ كثير من المنكرات في البيوت، وغيرها، وعدم الأمر بالمعروف إلا من تساهل عموم الناس، وصار كل فرد منا يجعل المسؤولية على غيره، ولم يع أنه مسؤول في حدود ما منحه الله، جل، وعلا، والمجتمع كالسفينة الواحدة إذا أُحدث فيها خرق واحد في أسفلها سبب هلاك من في السفينة كلهم إذا لم يأخذوا على يد من قام بهذا الخرق.

أيها المسلمون!

ليعلم كل آمر وناصح وموجه وناهٍ أن الأمر لا يحتاج إلى قوة، أو عنف، بل الأمر سهل، وميسور إذا استعمل كل فرد صلاحياته، ومسؤولياته، فلا يجوز استعمال القوة إلا لمن يملكها، كالسلطان في سلطانه، والأب في بيته، ولكن هناك وسائل كثيرة، كالنصيحة المباشرة المصحوبة بالابتسامة، والرسالة الرقيقة، وإهداء الكتاب النافع، أو الشريط المفيد المناسب للموضوع.

فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بصفات المتقين الأبرار، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلَّا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ﷺ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون! إن المسلم- أيا كان موقعه- في حال أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر عليه الأمر، والنهي، وليس عليه الاستجابة، فالرسول ﷺ لازم عمه أبا طالب يدعوه، ويأمره، ويطلب منه أن يقول: لا إله إلا الله، ولم يستجب، حتى مات على ذلك، ومع ذلك، فقد استمر الرسول ﷺ في دعوته، وتوجيهه، وحزن الرسول، ﷺ، على ذلك، حتى أنزل الله عليه: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56].

وهذا يؤكد على كل فرد أن يستمر في التوجيه، والدعوة، والإرشاد، فالداعي مهمته البلاغ، ويكفي في ذلك الإعذار إلى الله، سبحانه، والخروج من عهدة التكليف، والمسؤولية، كما قال سبحانه: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ ۞ كَانُوا۟ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍۢ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78، 79].

كما عرفنا أن هذه الأمة هي خير الأمم بسبب قيامها بهذا الواجب العظيم، ولذا فهو واجب من الواجبات على كل فرد بحسبه، وعرفنا بعض الآداب التي ينبغي أن يتصف بها الآمر، والناهي كالإخلاص لله، والصدق، والحلم، والحكمة، والرفق، واللين اقتداء بسيد الأنبياء، والمرسلين، وعليهم الصلاة، وأتم التسليم.

أيها المسلمون! اعلموا أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر، فهو فرض كفاية على عموم المسلمين، وفرض عين على كل مسلم قادر إذا لم يقم به غيره، لقول الله جل وعلا: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] وروى مسلم، عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

فليس الأمر بالخير، والمعروف، وإرشاد الناس، وتوجيههم، وتصحيح أخطائهم، وتقويم سلوكهم قاصرًا على فئة معينة من الناس، كالهيئات الرسمية فقط، فهؤلاء تعيّن عليهم هذا الأمر، وصار في حقهم آكد، ولهم أن يستعملوا من الوسائل، والأساليب ما في حدود استطاعتهم، وإمكاناتهم، وصلاحيتهم، ولكن الواجب أيضًا يعم كل فرد مسلم كل بحسبه، وكل هيئة رسمية، أو غير رسمية بحسبها، وبالوسيلة المناسبة، والأسلوب الحكيم، فالسلطان آمر بالمعروف داع إلى الخير ناهٍ عن المنكر في حدود سلطانه، والقاضي في حدود قضائه، والمسؤول في التعليم، والمدرس في دائرة اختصاصه، وموظف الإعلام المسموع، والمرئي في إذاعة، أو تلفاز، أو صحيفة، أو مجلة، فالمهمة على عاتقه كبيرة، والمسؤولية في هذا الباب جسيمة، كيف، وأجهزة الإعلام دخلت إلى كل بيت وغرفة! وتلك أدوات، ووسائل، فمن يملك المشاركة فيها، فهو من أعظم المسؤولين عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكذا كل مسؤول موظف في كل جهاز، ومؤسسة كل في حدود مهمته، وقدراته، واستطاعته، فهم آمرون، وموجهون، وناهون.

أيها المسلمون! ومن أعظم المسؤولين في الأمر، والنهي رب الأسرة، وقيمها ووليها، فقد يستطيع أن يأمر، وينهى بما لا يستطيع غيره: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» كل بحسبه، وقدراته، واستطاعته، فتعاونوا –عباد الله- على ذلك، واستمروا عليه، وكونوا عونًا لكل آمر، وناهٍ، وداعٍ إلى الله، وادعوا للآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وكفوا عن تجريحهم، وتصيد أخطائهم، وناصحوهم، وادعوا لهم بالإعانة، والتوفيق، فهؤلاء سواء كانوا جهات رسمية، أو غير ذلك يشكلون حاجزًا من عقوبة الله، جل، وعلا، في الدنيا، والآخرة، قوموا بمسؤولياتكم، ولا تقصروا، وبخاصة فيما تقدرون عليه مما يتصل ببيوتكم، ونسائكم، وأبنائكم، وبناتكم، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الله الله في ذلك، فالأمر خطير، والنعم لا تدوم إلا بشكرها، والمحافظة عليها على منهج الله ﷻ، ومن أهم المحافظة:

التواصي بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الله الله في ذلك قبل أن تندموا، ولات ساعة مندم، وصلوا، وسلموا على خير الدعاة، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، كما أمركم الله جل وعلا في محكم التنزيل فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].