home-icon
الجمعة وآدابها

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة من أشرف الأيام، وجعله عيدًا لأهل الإسلام، وأحمده سبحانه، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده، ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله ليوم تبيض فيه وجوه، وتسود فيه وجوه، يجعل الولدان شيبًا.

أيها المسلمون:

إن من نعم الله، تعالى، علينا أن فَضَّل يوم الجمعة على سائر الأيام، وجعله عيدًا لأهل الإسلام، فهو من أعظم الأيام عند الله تعالى، وفيه خمس خصائص: فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه مات، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل حرامًا، وهو يوم أضل الله عنه الأمم السابقة، فطلبوا فضله في غيره، وهدى الله تعالى له هذه الأمة، فوافقته فضلًا منه، وإحسانًا، فاحمدوا الله، تعالى، على هدايته، واشكروه على فضله، واجتهدوا في هذا اليوم بما شرع لكم من العبادات ابتغاء رضوانه، وجنته، واتقوا الله، وأحسنوا، فإن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.

روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وحذيفة (رضي الله عنهما) قالا: قال رسول الله ﷺ: «أَضل اللهُ عن الجمعة من كان قبلنا، فكــان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبعٌ لنا يوم القيامة، نحـن الآخــرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المَقْضِيُّ لهم قبل الخلائق».

وفي هذا اليوم تقام صلاة الجمعة التي هي من أكبر فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، بل أعظمها سوى مجمع يوم عرفة، ولذا يسن المسلم أن يتهيأ لها، ويستعد بالاغتسال، والطيب، واللباس الحسن، ويمشي لها بخشوع، ورَغَبٍ، ورَهَبٍ مبكرًا.

فقد روى البخاري في صحيحه، عن سلمان (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غُفر له ما بينه، وبين الجمعة الأخرى».

وروى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي ﷺ أنه قال: «من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى يوم الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بين الجمعة، والجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام».

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة، فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله، تعالى، شيئًا إلا أعطاه إياه».

وقد جاء بيان هذه الساعة، عن النبي ﷺ أنها ترجى فـي أحد وقتين:

أولهما: وقت خطبة الجمعة، كما في صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري(رضي الله عنه) يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة».

وثانيهما: آخر ساعة من عصر الجمعة، كما في مسند أحمد، عن أبي هريرة، وأبي سعيد (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللهﷻ فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، وهي بعد صلاة العصر». ويشهد له ما رواه ابن ماجه (رضي الله عنه)، عن عبدالله بن سلام (رضي الله عنه) قال: قلت: أي ساعة هي؟ قال: يعني رسول الله ﷺ: «هي آخر ساعات النهار».

أيها المسلمون! ومن فضائل يوم الجمعة أنه يوم تُكفَّر فيه السيئات، وتغفر فيه الذنوب، وتعظم فيه الأجور، وتعتق فيه الرقاب من النار لمن أخذ بهدي النبي ﷺ في لزوم سنته، كما جاءت البشارة في ذلك، في جملة من أحاديث النبي ﷺ وكفى به شرفًا أنه أفضل أيام الأسبوع، وأنه يوم ادخره الله لهذه الأمة، وجاءت الأحاديث تنص على اسمه، وتنوه بفضله، في الكتاب، والسنة، فسارعوا أيها المؤمنون، لاغتنام هذا الفضل العظيم، وتنافسوا في هذا العطاء الكريم من ربكم الرحيم، فقد دعاكم إلى هذا الخير، وحثكم على السعي إليه، ونهاكم عن التشاغل بالأهل والأولاد، أو البيوع ومتع الحياة، وهاكم خطابه ونداءه أحبابه أهل الإيمان والاستجابة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الجمعة: 9-10].

أيها المسلمون: ومع هذه المزايا والخصال التي خص الله بها هذا اليوم العظيم نجد واقع بعض المسلمين تجاه هذه الشعيرة واقعًا مؤلمًا، فكثير من المسلمين لا يعرف عن يوم الجمعة إلا أنه يوم عطلة وكسل، وكثرة النوم في النهار والسهر في الليل، يلهو ويعبث، وقد يكون على آلات محرمة مسموعة أو مرئية، ولم يعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، فانتبهوا أيها المسلمون من غفلتكم، وقوموا من رقدتكم، واستغلوا هذه الفرصة الربانية فإنها قد لا تمر على الإنسان مرات من دهره، واستثمروها بالأعمال الصالحة قبل أن تقول نفس: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، استغلوها قبل أن تندموا ولات ساعة مندم، بادروا بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان وكونوا من أولي الألباب الذين أجابوا رب الأرباب ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده، ورسوله النبي الكريم، والرسول الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه الطيبين الطاهرين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا…، أما بعد:

أيها المؤمنون! توبوا إلى الله ﷻ قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وَصِلُوا الذي بينكم، وبين ربكم تُؤجروا، وتُحمدوا، وتُرزقوا، واعلموا أن الله ﷻ قد فرض عليكم الجمعة، فريضة مكتوبة إلى يوم القيامة من وجد إليها سبيلًا، فمن تركها جحودًا بها، أو استخفافًا بها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك في أمره، ويخشى عليه من العقوبة الشديدة في الدنيا، والآخرة.

عباد الله! «احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام»، فإن منازلكم في الجنة على مثل صفوفكم من الجمعة، وإن الرجل ليتخلف عن الجمعة، حتى إنه ليتخلف عن الجنة، فبكروا إلى الجمعة تكتبوا عند الله من السابقين، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول، فالأول، ومَثَلُ المهجِّر – يعني المبكر- كمثل الذي يُهدي بدَنَةً، ثم كالذي يُهدي بقرةً، ثم كبشًا، ثم دجاجةً، ثم بيضةً، فإذا خرج الإمام طووا صُحُفهم، ويستمعون الذكر».

أيها المسلمون!

إن من المؤسف جدًّا أن نرى كثيرًا من المسلمين لا يقيم ليوم الجمعة، ولا لصلاتها وزنًا، فجعل هذا اليوم يومًا للهو، والعبث، فتراه يسهر ليلة الجمعة على الملهيات عند التلفاز، أو الفيديو، أو لعبة الورق، أو الخروج إلى البـراري إلى ساعات متأخرة من الليل، ثم ينام، فيخيم عليه الشيطان، فتفوته صلاة الفجر، ولا يستيقظ إلا عند صلاة الجمعة، فيأتي إليها يلهث من غير استعداد نفسي، وقد دخل الإمام يخطب الجمعة، وفاته ذلك الفضل العظيم.

زد على ذلك كثيرًا أن أجهزة الإعلام وبالذات الفضائيات تركز على برامج ليلة الجمعة؛ فلا تنتهي تلك البرامج إلا في ساعة متأخرة من الليل لتساعد الناس على لهوهم وغيهم، والرسول ﷺ وصحابته يتنافسون آخر الليل في الصلاة، والقيام، والتهجد، وقراءة القرآن، وشبابنا، وشاباتنا يتنافسون في متابعة المسلسلات تلك الليلة، ليناموا بعدها إلى صلاة الجمعة، إنها حالة مؤسفة يندى لها جبين المسلم، فكم يضيع هذا المسكين من وقت؟ وكم فاته من الأجر؟ وكم حصل من الإثم؟ والله إن الموتى في قبورهم يتمنون تسبيحة، أو تكبيرة، أو تهليلة، أو ركعتين يصلونها أو غيرها من الطاعات، ولكن هيهات، وهذا يلعب بوقته، ويضيعه فيما حرم الله، ويفوت على نفسه الأجر، والثواب.

إن المساجد يوم الجمعة تشتكي إلى الله من الجفاء الذي تبدَّى عن كثير من المسلمين، يدخل الإمام يوم الجمعة، ولا يجد إلا نفرًا قليلًا، وإذا سلم من الصلاة وجد صفوفًا متراصة؟ أين هؤلاء قبل الصلاة؟ أزهدًا في الأجر يا عباد الله! أم عدم مبالاة في أوامر الله؟!!

عباد الله:

إذا دخل أحدكم المسجد يوم الجمعة، فلا يجلـس حتـى يصلي ركعتين، لما في الصحيحين()، عن أبي قتادة (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أحدكم المسجد يوم الجمعة، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين».

ولو دخل أحد، والمؤذن يؤذن الأذان الأخير للجمعة، فإن المشروع في حقه أن يشرع في الركعتين، ولا ينتظر حتى يفرغ المؤذن، حتى يتهيأ لاستماع الخطبة؛ لأن استماع الخطبة مقدم على إجابة المؤذن، وإياكم أن تشغلوا أيديكم حال الخطبة بلمس الأرض أو العبث بالفرش، أو نحوها، فإن هذا مما يَحْرِم الرجل فضل الجمعة، فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ومن مس الحصى، فقد لغا».

وكذلك من اللغو أن تتحدث مع غير الإمام، ولو على سبيل الإرشاد، لما في الصحيحين، عن أبي هريرة(رضي الله عنه) قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت». وإياكم، وتخطي رقاب الناس دون أن تروا مكانًا خاليًا، فإن ذلك يعرض الإنسان المسلم لتحصيل الإثم، وفوات الأجر، فقد رأى النبي ﷺ رجلًا يتخطى رقاب الناس، فقال له: «اجلس قد آذيت وآنيت- يعني قصرت».

أيها المسلمون!

اعلموا أنه «يحضر الجمعة ثلاثة، رجل حضرها بلغو، وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله ﷻ إن شاء الله أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات، وسكوت، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله ﷻ يقول: ﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160].

هذا، وأكثروا من الصلاة على النبي ﷺ فإن للصلاة عليه في يوم الجمعة فضلًا كثيرًا، وأجرًا كبيرًا، فعن أوس (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ».

اللهم صلِّ وسلم وبارك على رسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.