
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، يقبل التوبة من عباده ممن أذنب، وتاب، أحمده سبحانه، وأشكره على ما تفضل به، وأجاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو الغفور التواب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده، ورسوله خير من صلى، وصام، وأناب، صلى الله عليه، وعلى الآل، والأصحاب، والتابعين، ومن تبعهم، وسار على خطاهم إلى يوم المآل، والمآب.
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله تعالى، فإن خير الزاد التقوى، فما هي إلا أعمار تطوى، وآجال تفنى.
أيها المسلمون:
في دنيا الناس من التعامل مع الغيب أمور خطيرة، زلت بها أقدام، وزاغت بها عقول، وسارت في ركاب الوهم، والخرافة، وتعلقت بها قلوب من دون الله ﷻ وتلاعبت الشياطين بأصحابها، وقد وققنا على شيء من ذلك في خطبة سابقة مع السحر، والتعامل به، والمنخدعين بالسحرة، وما السحر إلا تعلق بالشياطين من دون الله، يسجد لهم الساحر، ويذبح لهم، ويستغيث بهم؛ لذا كانت عقوبة الساحر عظيمة في الدنيا، والآخرة، ففي الدنيا القتل، وفي الآخرة جهنم، وبئس المصير.
أيها المسلمون!
وثمة أمور كثيرة من تعاملات الناس لها علاقة وطيدة، وقوية، أو خفية بالسحر، تعلق بها أقوام، وانحرفت بهم عن الصراط المستقيم، وحادت بهم عن المنهج القويم، وأوكلتهم إلى أوهام، وخرافات، وأوقعتهم في مزالق، وخزعبلات، وكل ذلك بسبب ضعف الإيمان، وقلة اليقين بالله، سبحانه وتعالى، وسذاجة العقول.
من هذه الأشياء الخطيرة، والموبقات العظيمة إتيان الكهان، والعرافين، والوقوف عندهم، وطلب معرفة أحوال المستقبل منهم، والكاهن، هو الذي يأخذ عن مُسترق السمع من الجن، ويخبر عن المغيبات في المستقبل، فيقول- مثلًا-: سيحدث في العالم كذا، أو سيموت فلان، أو سيحصل زلازل، وبراكين، أو سيفتقر أناس، وسيغنى آخرون إلى آخر هذه الإدعاءات الكاذبة.
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا ساجعات الطير ما الله صانـع
والعراف: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يزعمها، وهو يستعين بالشياطين، كمعرفة مكان الضالة دون أن يكون له معرفة بالقيافة، أو معرفة الإنسان المفقود، وغيرها من أمثالها، فينخدع ضعاف الإيمان، والعقول بما يدعيه أولئك، وهم لا يعلمون من أمرهم شيئًا، فكيف بغيرهم؟
أيها المسلمون!
داء الكهانة، والعرافة داء خطير، وشره مستطير؛ لذا حسم الشرع أمرهم، والتعامل معهم، لئلا يتلطخ المسلم بهذه الشوائب، فتختل عقيدته، ويضعف توحيده، وتهتز علاقته بربه، روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي ﷺ أنه قال: «من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة»()، وروى أصحاب السنن، عن أبي هريرة(رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «من أتى كاهنًا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»ﷺ وروى الحاكم، وغيره: «من أتى عرافًا أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ»، فإذا كان هذا الوعيد الشديد في حال المصدق لهؤلاء، والسائل لهم، فكيف بحال المتعامل بهذه الكهانة؟ إنه الكفر، والضلال، والعياذ بالله!
أيها المسلمون:
قد ينخدع بعض الناس فيما يرونه يقع أحيانًا مما يحدِّث به هؤلاء، فقد سأل أُناسٌ النبي ﷺ عن الكهان فقال: «إنهم ليسوا بشيء» فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقًّا، فقال النبي ﷺ: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة» رواه البخاري(رضي الله عنه)، وقد قال تعالى: ﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ (222) يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ﴾ [الشعراء: 221-223].
أيها المسلمون!
ومن الأشياء الخطيرة الناتجة من التعامل بالغيب: التشاؤم بالطيور، أو الأسماء، أو الألفاظ، أو البقاع، أو الأشخاص، أو الأيام، والشهور، كالتشاؤم بطائر البوم، أو بشهر صفر، أو ببعض منازل القمر، ونحوها، وهذه أوهام، وخرافات كانت في الجاهلية، وموجودة عند بعض الأمم الكافرة إلى اليوم، فيجب الإنكار عليهم، ومحاربتهم، وعدم التجاوب، أو التساهل في هذا الأمر. ومن ذلكم ما يفعله بعض الناس بزعم اتقاء العين، أو السحر من تعليق التمائم، والخيوط على صدور الأولاد، أو تعليق خرق سوداء على الدابة، أو السيارة، أو تعليق تعاويذ، ورقي ملفقة ينسجها أدعياء الكهانة، أو العوذة، ونحوها مما يخدعون بها العامة، والسذج، وضعاف الإيمان، والعقول من الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: «إن الرقي، والتمائم، والتولة شرك» [رواه أحمد، وأبو داود](رضي الله عنه).
أيها المسلمون!
إن جميع ما ذكر من هذه الأوهام، والخرافات، والخزعبلات، وأشباهها كلها محرمة في دين الله ﷻ بل من الموبقات العظيمة، والآفات الخطيرة، والأدواء الفتاكة التي إذا طغت على حياة فرد، أو أفراد أردته المهالك، وجعلته يتعلق بالشياطين، والأوهام، وعرضته للوساوس، والخيالات التي لا تنتهي، وجعلته يبني حياته على غير أساس، فهو يتنقل بين تعويذه، وخرقة، وتعلق بالخيال، والشياطين من الجن، والإنس، فيلعبون عليه، حتى يخرجوه مـن دينـه من حيث يشعر، أو لا يشعر، أما مرضه الذي تعلق بهم من أجل، أو مصيبته، أو فقره، أو مشكلته التي يريد حلها، أو كربته التي يريد أن ينفسوها له أو همه الذي يريد المخرج منه، فهذه كلها تزداد عليه، وتصبح ظلمة، فوق ظلمة حتى تتلاطم عليه الظلمات.
أيها المسلمون!
إن من الحصافة، والعقل، فضلًا عن الديانة، والخلق، البعد عن كل هذه الترهات، والخزعبلات، والاعتقاد الجازم بأن الله مدبر الكون، وله الحكم، والقضاء، فما أنت فاعل أيها الإنسان الضعيف إلا التعلق بربك، والتوكل عليه، والتعلق بالواحد الأحد، وهو مطلع على أحوالهم وحده، فمهما أصيب الإنسان بأمراض، أو توالت عليه البلايا والمحن، أو تكاثرت عليه الخطرات، أو ازدادت عليه المشكلات، أو استمرت عليه المصائب، أو اشتد عليه الفقر، فليس ذلك كله مبررًا للولوج في هذه المسالك الوعرة، والطرق المظلمة، والسبل المهلكة، وإنما عليه اللجوء إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنشئ السحاب، وخالق الناس من تراب، فهو الذي إليه الملجأ، وإليه المآب، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2] اللهم أعذنا من شياطين الإنس والجن، واحفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك، يا سميع الدعاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأساله العفو، والعافية في الدين، والدنيا، والحال، والمآل، أحمده سبحانه، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله شريف النسب، وكريم الخصال، صلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه خير صحب وآل، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان على يوم المآل.
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله سبحانه، واعلموا أنه يجب على المسلم العاقل أن يتجنب الأسباب الموصلة إلى الوقوع في تلك الأوهام، والأدواء الخطيرة المهلكة الموقعة في الكفر، والشرك، ومن أهم الأسباب الموصلة للوقوع فيها: ضعف التوحيد في القلوب، وقلة الاعتماد على الله، سبحانه، وتعالى، وضعف استشعار عظمته في النفوس، وعدم استشعار قدرته في تدبير الكون، والإنسان، والحياة.
ومن أهم الأسباب أيضًا التساهل في أداء الواجبات الشرعية، كالتساهل في أداء الصلاة، أو الصيام، أو فعل بعض المحرمات، كتناول المسكرات، والمخدرات، وما شابهها.
وإن من أعظم الأسباب أيضًا الغفلة عن كتاب الله، تعالى، قراءةً، وتدبرًا، وعملًا، وإهمال ذكره، سبحانه، فيعيش هذا العبد هائمًا على وجهه مبتعدًا عما يربطه بخالقه، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: 36] فمتى ما خلا جوف الإنسان، وبيته، ومقر عمله من ذكر الله تعالى، كان مرتعًا للشياطين، والعياذ بالله.
ومن الأسباب ملء الأماكن فضلًا عن القلوب بالأشياء الملهية عن عبادة الله تعالى، كقضاء الأوقات أمام الملهيات من الفضائيات، وغيرها.
أيها المسلمون!
إن المسلم الحصيف، الذي يريد النجاة في الدنيا، والآخرة، ويسعى لسعادة الدارين، هو الذي يصنع السياج القوي، والحصن المنيع من أن تتسلل إليه هذه الشركيات، والخرافات، وإن من أهم هذه الحصون: قوة التعلق بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، واستشعار عظمته، فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتمد عليه آواه، ومن كان مع الله كان الله معه ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
ومنها المحافظة على الفرائض أداؤها بأوقاتها، وأركانها، وشروطها، وعدم الإخلال بها، أو النقص فيها، أو التساهل بها، وأن يجتهد في عمل المستحبات، والبعد عن المحرمات، والمكروهات بأنواعها، فمن قام بهذه الأشياء، فقد حفظ الله، تعالى، ومن حفظ الله، تعالى حفظه، في دينه، ودنياه، وأهله، وماله، ودنياه، وآخرته، قال عليه الصلاة والسلام: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك».
ومن أهم ما يحفظ به الإنسان نفسه كثرة ذكر الله، تعالى، والمحافظة عليه، وبخاصة الأوراد الخاصة، كأذكار الصباح، والمساء، وعند النوم، والخروج من المنزل، وركوب السيارة، وغيرها.
وإن من السياج المنيع قراءة كتاب الله، تعالى، والحرص على ذلك، فلا يجتمع مزمار الشيطان، وقرآن الرحمن في جوف إنسان.
أيها المسلمون!
وإن من السياج المنيع أيضًا أن يكون الإنسان في هذه الحياة عاملًا نشيطًا أيًا كان عمله، مبتعدًا عن العزلة الشيطانية، فلا يترك عمله، أو يتساهل به بل يمضي مجدًّا قويًا مهما اعترته الهواجس، والوساوس، فدين الإسلام دين العمل، والإنتاج، لا دين الكسل، والخمول، والفتور، وإن الفرد العامل القوي هو الذي لا تقوى عليه الشياطين، ولا توسوس له.
أيها المسلمون!
إن الأمم فضلًا عن الأفراد إذا كان همها، وشغلها الشاغل هو التعلق بهذه الأوهام، فقد خسرت، وجانبت الطريق الصواب، وأصبحت في ذيل القائمة بين الأمم، والإسلام دين القوة، والإنتاج، والبعد عن سفاسف الأمور، فلا نكن فريسة للشياطين، فنهلك في الدنيا، والآخرة، أسأل الله، تعالى، أن يحفظنا من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وحقد الحاقدين، وأن يحفظنا بحفظه وأن يكلأنا برعايته، وصلوا وسلموا على رسول الله وخيرته من خلقه، لتسعدوا في دنياكم وأخراكم، كما أمركم الله جل وعلا بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

مَظَاهِرُ ضَعْفِ التَّوْحِيدِ وَسُبُلُ عِلاجِهِ
الخطبة الأولى الحمد لله نحمدك، ونستعينك، ونستغفرك، ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم...

صورتان للقدوة (2)
الخطبة الأولى الحمد لله خلق الإنسان من طين، وكرمه بهذا الدين، أحمده سبحانه، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله،...

التحذير من وسائل الشرك
الخطبة الأولى الحمد لله إقرارًا بوحدانيته، اختص أهل الصدق والتوحيد بصدق معاملته، ومنّ على العاصي بقبول توبته، أحمده سبحانه وأشكره...

من نواقضِ التَّوحيدِ: الشِّركُ بِالله
الخطبة الأولى الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره،...

بصائر لذوي الضمائر
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو مالك الملك، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده فيما كانوا...