home-icon
الإِيمانُ باليَومِ الآخِرِ(1) نعيم القبر وعذابه

الخطبة الأولى

الحمد لله نصب الكائنات على ربوبيته، ووحدانيته براهين، وحججًا، فمن شهد له بالوحدانية، وآمن بلقائه واستعد لمعاده، أفلح، ونجا، أحمده، سبحانه، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، والخوف، والطمع، والمحبة، والرجا، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أنزل عليه الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، صلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان ما نهارٌ تجلّى. وما ليلٌ سجى.

أما بعد: عباد الله: اتقوا الله ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، واتقوا الله تنجوا من عذاب الله ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 72]، واتقوا الله تكونوا الوارثين لجنة الله ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63].

أيها المسلمون:

الركن الخامس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، هذا اليوم العظيم، جاءت الشرائع كلها بتقريره، والتأكيد عليه، وبيان أحواله، وأهواله، وكتاب الله تعالى مليء بالآيات القرآنية الدالة عليه، والمرشدة إليه، والمقررة له، والموضحة لما يجري منه، هذا اليوم يوم مجموع له الناس، وهو يوم مشهود، يوم تتغير فيه حياة الناس: بسننها، ومعالمها، ذلك اليوم يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.

يوم أخبر الله عنه بأبلغ وصف، وأتم بيان، وأكثر من ذكره، وأحداثه العظام. اسمعوا ما قاله الله تعالى عنه: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30]. ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: 106]. ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 27]. ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: 45]. ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105]. ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]. ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [ النحل: 89] ﴿ ۞ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [النحل: 111]. ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 52]. ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [الإسراء: 71]. ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾
[الكهف: 47].

﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: 102].

﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104].

﴿يَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوۡرٗا (9) وَتَسِيرُ ٱلۡجِبَالُ سَيۡرٗا﴾ [الطور: 9، 10].

﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا﴾ [الفرقان: 25].

﴿يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ﴾ [الشعراء: 88، 89].

﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: 87].

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا﴾ [المزمل: 14].

﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16].

﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 52].

﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [الدخان: 41].

﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38].

﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ﴾ [الانفطار: 19].

﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [ البقرة: 254].

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42].

هذا هو يوم القيامة، كما وصفه رب العزة، والجلال، هذا اليوم تتعالى فيه صيحات الكفار، والمنافقين والمضيعين لأنفسهم في هذه الحياة الدنيا، فمن قائل: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر: 56] ومن قائل: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 25]. ﴿ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 28]. ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 42]. ﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24]. ﴿ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40]. ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: 27]. ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97]. ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 52]. ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الصافات: 20].

وفي هذا اليوم يسعد المؤمنون المطيعون لربهم، وتتوالى تلك البشارات لهم ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43]. ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [الزمر: 74]. ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34].

أيها المسلمون!

يبدأ يوم القيامة بالنسبة للأفراد منذ لحظة، موتهم وسكونهم في قبورهم، فالقبر أول منازل الآخرة، كان الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إذا وقف على القبر بكى حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة، والنار، فلا تبكي وتبكي من هذا، فقال: إن النبي ﷺ قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشدّ منه» قال: وقال رسول الله ﷺ: «ما رأيت منظرًا قط إلا القبر أفظع منه» [رواه الترمذي، وابن ماجه].

القبر: تلك الحفرة الضيقة التي لا أنيس فيها ولا جليس، ولا صديق، ولا سمير، إلا العمل الصالح أنيس أصحابه في قبورهم، ومزيل وحشتهم في رممهم.

القبر: موطن العظماء، والحقراء، والحكماء، والسفهاء، ومنزل الصالحين السعداء، والطالحين الأشقياء، السكون يرفرف على فضائه، والرهبة تنتشر بين أجوائه.

القـبـر باب وكل الناس داخله                                      فليت شعري بعد القـبـر ما الـــدار
الدار دار نعيم إن عملت بما                                        يرضي الإله وإن خالفت فالنـــار

وقد ورد أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه ينادي: «ويحك يا ابن آدم، ما عزك؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة، وبيت الغربة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟».

هذه القبور: ظواهرها من التراب والحجارة مبنيات، وفي بواطنها الدواهي البليات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، وقد حيل بين من فيها، وبين شهواتهم، وأمانيهم.

أيها المسلمون! في القبر السؤال، والمناقشة، والتوفيق، والتثبيت، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، كما سبق ذلك في الحديث الصحيح.

إن عذاب القبر، ونعيمه هو عذاب البرزخ، ونعيمه، هو ما بين الدنيا، والآخرة، فالمصلوب، والغريق، والحريق، وأكيل السباع والطيور، والحيتان له قسطه من عذاب البرزخ، ونعيمه، حتى لو علق العاصي على رؤوس الأشجار في مهاب الريح، لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، نعتقد ذلك، ونؤمن به، ولا نبحث في كيفيته، إذ لا سبيل للعقل في كيفية ذلك، قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]. وقال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: 21] روى الإمام مسلم أن النبي ﷺ دخل حائطًا من حيطان بني النجار، فسمع صوتًا من قبر، فسأل عنه: «متى دفن هذا؟» فقالوا: يا رسول الله، دفن هذا في الجاهلية، فأعجبه ذلك، وقال: «لولا أن لا تدافنوا لدعوت اللهﷻ أن يسمعكم عذاب القبر».

أيها المسلمون! في القبر يسأل عن أمور ثلاثة: عن ربه، ودينه، ونبيه، فالمسلم يجيب إجابة صريحة: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، ﷺ، فيقال: صدقت، أما الكافر، والمنافق فيقول: هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلت، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه.

هذه فتنة القبر، فتعوذوا بالله من عذاب القبر، وأول منازل الآخرة، فأعدوا لهذا المنزل مقامه.

اللهم أعذنا من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا، والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، نفعني الله، وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله تفرد بكل كمال، وتفضّل على عباده بجزيل النوال، له الحمد في الأولى، والآخرة، له المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدّس عن الأشباه، والأمثال، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمدًا عبده، ورسوله المبعوث بكريم الصفات، وجميل الخصال، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير، والمآل.

أما بعد: أيها المسلمون! قال الإمام ابن القيم (رضي الله عنه): «ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويعذب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو. فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار، وتسبح بطون أكلة الربا بالحجارة، ويسبحون في أنهار من دم، كما يسبحون في الكسب الخبيث، وتُرض رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينيه إلى قفاه، كما شقت كلمته النواحي، وتعلق النساء الزواني بثديهِنَّ، وتحبس الزناة، والزواني في التنور المحمى عليه، فيعذب محل المعصية منهم».

أيها المسلمون:

القبر منزل لا بد نازله، قد ترتحل إليه بعد لحظات، أو سويعات، أو سنوات، ولا يشك مسلم أن ذلك لا محالة آت، هذه حقيقة أذابتها شمس المادية الملتهبة، وحبُ الدنيا الطاغي، وأطاحت بها أعاصير زينة الحياة.

القبر: واعظ صامت، لا يملك العبارات المنمقة، ولا يعرف نظم الشعر ولغته، وإنما يعرف لغة أشد تأثيرًا من كل أنواعها، ومنظرًا أعمق من كل عبارات الوُعّاظ، وللتراب الصامت صوت لا يسمعه، ولا يعي مدلوله إلا من وقف أمامه يتأمله، وهو يضم بين جنباته الوالد والولد، الصديق، والغريب، والقريب الحبيب.. والأم والزوجة والبنت والأخت يضم جثثًا هامدة لا حراك بها، ولا نفس في عروقها، يضم الأجسام البالية، والعظام النخرة، والأشلاء المبعثرة، والأوصال المقطعة.

أتيـت القبور فناديتهــا                                                       فأين المعظم والمحتقــر؟
تفانوا جميعًا فما مخبــر                                                    وماتوا جميعًا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى                                                      فتلفي محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا                                                أمالك فيمن مضى معتبـر

للقبر عظة أيما عظة، كان عمر بن عبد العزيز  تعالى، إذا نظر إلى القبور بكى، ثم قال: «هذه قبور آبائي، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم، وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيها البلى، وأصابتهم الهموم في أبدانهم».

أيها المسلمون!

منظر القبر يرقق القلب، ويدمع العين، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، يذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ويورث العظة، والاعتبار، يجعل العبد يتيقظ من غفلته، وينسلخ من أحضان أحلامه، وشهواته، إن ساعة من الزمن تعيشها النفس أمام المقابر، تطل على حاضرها، وتبكي على الظلم من صفحات غابرها، وترسل بين الأجداث المبعثرة أناتها، تتساءل عن وفاة صديق، أو قريب، تذيع على الدنيا العبر، وتتذكر تاريخ من غبر.

القبر: نعم الواعظ يعظ الأحياء بصمت، ليذكرهم بالمآل الذي لا بد منه، فيدفعهم ذلك إلى زيادة الاستعداد ليوم المعاد «زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة» نعم هو الدواء لمن قسا قلبه، ولزم ذنبه، وطال أمد غفلته، فليس الخبر كالعيان.

أين المتأخرون عن الصلاة، والعاكفون على الشهوات، والعابثون بالملهيات؟ أين التاركون للزكاة؟ أين من غرتهم الدنيا، فطال عليهم الأمد، وقست قلوبهم؟ أين المتعاملون بالربا، وأكلة أموال الناس بالباطل؟ أين المضيعون لأماناتهم ومسؤولياتهم وأسرهم؟ أين الواقفون حربًا على الإسلام، وأهله؟ الصادون عن دينه، أليس لهم في القبر معتبر؟ بلى إنه من أبلغ العلم الخبر، أين المراؤون بأعمالهم، المفتخرون بأحسابهم، وأنسابهم؟ أين اليد الظالمة، واللسان الكذوب، والعين الخائنة؟

أين القلب القاسي، والعقل اللاهي؟ أين هؤلاء من أولئك غدًا من سؤال منكر، ونكير، وعندما يحاسب الإنسان على الدرهم، والقطمير، نسأل الله الثبات فنقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وصلوا، وسلموا على رسول الله البشير النذير، وحجة الله على العالمين، اللهم احشرنا تحت لوائه، ونجنا من عذاب القبر ولأمرائه، يا نعم المولى، ونعم النصير. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].