
الخطبة الأولى
الحمد لله الغفور الرحيم، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخصّه بالإنعام والتكريم، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم به وتفضل، فهو الشكور الحليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 24]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أثنى عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته، فكانوا على صراط مستقيم، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم، واتبع منهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﻷ، فالسعيد من تدبر أمره، وأخذ حذره، واستعد ليوم لا تنفع فيه عبرة.
أيها المسلمون! ديننا دين الفطرة ، تصلح له وتصلح به كل الأزمنة وكل الأمكنة، دين العقيدة والشريعة، دين يجمع البشاشة في حياء، وحسن الخلق في ابتسامة، دين يعترف بما للبشر من أشواق قلبية، وحظوظ نفسية، دين الطهر والنظافة والوضاءة.
ولقد عرفنا- عباد الله- جانبًا من التشريع العظيم في الطهارة من الوضوء والاغتسال، والتيمم والمسح على الخفين.
وكما حرص الإسلام على رفع الأحداث نظافة، فإنه أكد أيضًا على إزالة الأنجاس والأوساخ، والمحافظة على الأبدان والبيئة وتبدّي ذلك في الشوارع والطرقات، والحدائق وسائر المنافع.
فحين يجمل الدين البواطن والقلوب والأعمال من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، ويلبسها لباس التقوى والهداية إلى صراط مستقيم، فإنه يجمل الظواهر في أحسن تقويم، يقول الإمام ابن القيم : تعالى: «ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده الجَمَالَيْن؛ اللباس والزينة تجمل ظواهرهم، والتقوى تجمل بواطنهم، وقال في أهل الجنة: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۞ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11- 12] فجمل وجوههم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير»
أيها المسلمون! وإذا كان ذلك كذلك، فإننا نستعرض جوانب متفرقة ونماذج رائعة في تكريس الدين للطهر والنظافة، والنقاء والجمال؛ فالطهور شطر الإيمان، والصلاة أهم فرائض الإسلام بعد الشهادتين، فكما شرع لها التطهر من الحدث، شرع لها التنظف من القذر والنجاسة، فلا تصح صلاة بثوب أصابته نجاسة، أو بدن علقت به نجاسة، أو بقعة يصلي عليها وعليها نجاسة؛ فقد ورد أن النبي ﷺ – فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله ﷺ يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله ﷺ صلاته قال: «ما حملكم على إلقاء نعالكم»؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله ﷺ: «إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا أو قال أذى، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى، فليمسحه وليصلِّ فيهما».
وروى الشيخان، وغيرهما أن أعرابيًّا دخل المسجد، فبال فيه، فقام الناس ليقعوا به، فقال ﷺ: «دعوه وأريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين».
ومما يستحب للإنسان أن يكون طاهرًا في سائر أوقاته جاء في الخبر: «طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس من عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه في شعاره ملك لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك، فإنه بات طاهرا» رواه الطبراني بسند جيد.
أيها المسلمون! ومما جاء به الإسلام الحث على تنظيف الأجساد وتطهيرها من الأدران وأكد على خصال هي من الفطرة، أمر بتعهدها، قال عليه الصلاة والسلام: «خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار».
فالفطرة هي سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما اتفقت عليه التشريعات، والاستحداد: حلق العانة وإزالتها بأي مزيل، لما في تركها من تراكم الأوساخ، وجلب الأضرار، والختان: قطع الجلدة التي تغطي حشفة الذكر وإزالتها، والحكمة من ذلك تطهير الإنسان مما يجتمع تحت هذه الجلدة لو بقيت، ومن الدراسات الحديثة في ذلك؛ أنه وجد أن أقل أناس إصابة بسرطان الذكر هم المسلمون، وأكثرهم هم النصارى؛ لأنهم لا يختتنون، فلله الحكمة البالغة، وقص الشارب، وهو المبالغة في أخذه، قال عليه الصلاة والسلام: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» ومن الشارب السبالان، وهما طرفا الشارب، فلا تجوز إطالتهما كما يفعل بعض الناس، فقد روى الإمام أحمد، عن أبي أُمامة قال: قلنا: يا رسول الله! إنَّ أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال: فقال النبي ﷺ : «قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب».
أيها المسلمون! ومن سنن الفطرة، وهو من الواجبات الشرعية: إعفاء اللحية، جاء في الحديث الصحيح: «خالفوا المشركين، ووفّروا اللحى وأحفوا الشوارب» وفي رواية: «أوفوا اللحى» أي اتركوها وافية، ومما ابتلي به بعض المسلمين مخالفة هذه الشعيرة، فقلدوا الكفار، وتشبهوا بالمشركين، فحلقوا اللحى، وأطالوا الشوارب.
ومن سنن الفطرة لطهارة الجسد: السواك، فأخبر ﷺ أنه مطهرة للفم ومرضاة للرب، ولأهميته وعظم تأكيده كاد النبي ﷺ أن يوجبه، فقال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وفي رواية: «عند كل وضوء» ومما يدخل فيه التنظف من بقايا الطعام وفضلاته الأيدي والأفواه والأسنان، فقد شرب النبي ﷺ لبنًا ثم تمضمض وقال: «إن له دسمًا».
ومن طهارة الجسد العناية بشعر الرأس واللحية بالغسل والدهن والترجيل والطيب، فقد أخبرت عائشة ك أن النبي ﷺ كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله، وعن جابر بن عبدالله رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: أتانا رسول الله ﷺ فرأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: «أما كان يجد هذا ما يُسكِّن به شعره»؟ ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة فقال: «أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه».
ومن طهارة الجسد تنظيفه من كل رائحة كريهة من الثوب والكراث والبصل، وفتح الفم عند التثاؤب لما في ذلك من قبح المنظر وإيذاء الجليس بالرائحة، وسرور الشيطان.
ومما يؤكد عليه عدم إيذاء الجسد والبدن من تعاطي شرب الدخان فيضر نفسه وبدنه، ويزعج الآخرين برائحته، ويفتح بابًا للشيطان بمعصيته، ويجلب الأمراض إلى بدنه وقلبه، وينفر الناس الأخيار من مجالسته، وينفق ماله في كسب خبيث، وينبت جسده على السحت والحرام، ويتعاظم هذا الأذى إذا دخل به المسجد، فآذى الملائكة والمصلين وكذا مجمعات الناس، حتى إن الدول الكافرة منعته في المجمعات العامة كصالة المطار والطائرات والأسواق العامة وغيرها.
ومن الطهارة الجسدية الرائحة الطيبة، فالرسول ﷺ يحب الطيب ويكثر التطيب، وبخاصة لأداء العبادات ومقابلة الناس، قال رسول الله ﷺ : «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج لا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى».
وقال أيضًا: «حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» والسنة في طيب الرجل أن يظهر ريحه ويخفي لونه، فعن أبي هريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله ﷺ: «طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء، ما خفي ريحه وظهر لونه».
جعلني الله وإياكم من الطيبين الطاهرين، ونفعني وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
إن عناية الإسلام بالطهارة والنظافة تمتد لتشمل العناية بالبيئة: مساجد، وطرقات وحدائق وغيرها.
فيجب أن تكون المساجد نظيفة طاهرة مصانة من جميع الأوساخ والقاذورات، وألا يدخلها إلا طاهر نظيف، لأنها أماكن عبادة المسلم ومناجاته لربه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26] وروى البخاري وغيره أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله ﷺ، فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: إنها ماتت، فقال: «فهلا آذنتموني»؟- أي أعلمتموني- فأتى قبرها فصلى عليها. وفي رواية الطبراني: «إني رأيتها في الجنة تلقط القذى من المسجد»
وقال ﷺ: «عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد».
فيجب على المسلم احترام المساجد بإبقاء طهارتها ونظافتها وتنظيفها. وأن يتنظف في نفسه، ويبتعد عن كل ما فيه رائحة كريهة، كالثوم والبصل، فضلًا عن الدخان وما شابهه، فقد قال ﷺ: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».
أيها المسلمون! والعناية تشمل الشوارع والطرقات، قال عليه الصلاة والسـلام: «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ويعم ذلك الشوارع والحدائق وأماكن تجمعات الناس.
ومن الدقة في التعاليم الطهرية سبل الوقاية المحكمة في آداب قضاء الحاجة، لا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس بها طريق أو مستظل، فقد جاء النهي عن البول في الماء الدائم، وقال عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الملاعن الثلاث- يعني المسببة للعن- البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل». وقال عليه الصلاة والسلام: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم».
عباد الله! إن الكثير من الناس لا يبالي، فترى صورًا من أحوال الناس تحتاج إلى تصحيح وتقويم، وعناية ورعاية، فأناس يدخلون المساجد بروائح كريهة، وبثياب متسخة، إما بعد عمل أو لعدم مبالاة، وآخرون يخرجون المياه إلى الطرقات ويؤذون جيرانهم بالمياه والقمامة، وكأن الشوارع ملك لهم، وآخرون يؤذون الناس بمجمعاتهم بالتدخين، أو برمي بقايا ما معهم من أوراق ونحوه.
أيها المسلمون! إن المسلمين نماذج رائعة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم في أبدانهم وبيوتهم وطرقهم ومدنهم، ومساكن بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن يولون وجوههم شطر نظم وتقاليد وعادات يعجبون بها وهي لغيرهم، يتشبهون بها وعندهم خير منها في دينهم، والله، ما هو أزكى وأتقى وأنقى ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة : 138].
أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا وأعمالنا وجوارحنا وأقوالنا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل تعالى وجل من قائل عليما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

صورتان للقدوة (1)
الخطبة الأولى الحمد لله القوي المتين، الذي أعز عباده المؤمنين، أحمده سبحانه وأشكره جعل العزة في التمسك بالدين وأشهد أن...

الكهانة والعرافة
الخطبة الأولى الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، يقبل التوبة من عباده ممن أذنب، وتاب، أحمده...

الطهارة صفتها وأهميتها
الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، يحب التوابين ويحب المتطهرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن سيدنا محمدًا...

حدث ووقفات
الخطبة الأولى الحمد لله غافر الزلات مقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره،...

الإخلاص أساس التوحيد
الخطبة الأولى الحمد لله أمرنا بتوحيده، وإخلاص العبادة له، أحمده سبحانه وهو المستحق للحمد كله، وأشكره وهو أهل الشكر دقة...