home-icon
الطهارة صفتها وأهميتها

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، يحب التوابين ويحب المتطهرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله تعالى بتطهير قلوبكم من الآفات، وتنظيف أجسادكم من النجاسات، تفوزوا برضا ربكم ودخول جنة مولاكم.

أيها المسلمون!

بُعث محمد ﷺ بهذا الدين القويم الذي أتم الله به النعمة، وفضل به هذه الأمة، وجعلها أمة نظيفة طاهرة، فمنذ بداية البعثة أنزل الله تعالى عليه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ۞ قُمۡ فَأَنذِرۡ ۞ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ۞ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ۞ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ۞﴾ [المدثر: 1-5].

وقد جاءت التشريعات العظيمة أول ما جاءت بالحث على نظافة الباطن قبل نظافة الظاهر، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانًا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه» بل إن السعادة في الآخرة لا تكون إلا لصاحب القلب الطاهر النظيف، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌۭ وَلَا بَنُونَ ۞ إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍۢ سَلِيمٍۢ ﴾ [الشعراء: 88 – 89].

أيها المسلمون! وقلب المسلم مرآته، ينعكس عليها ظاهره وشكله وهيئته. ونظافة قلبه، وسريرته تؤدي به إلى نظافة ظاهرة، ومن المعلوم عبـاد الله ماضية أن الصلاة عمود الإسلام، وأنها أول ما ينظر من أعمال العبد يوم القيامة، فإن كانت صالحة قبلت ونظر في سائر عمله، وإن كانت فاسدة ردت عليه ورد سائر عمله.

والصلاة- عباد الله- لا تصح بدون التطهر من الحدث الأكبر والحدث الأصغر، كما أنها لا تصح بالبدن الذي أصابته النجاسة أو بثوب نجس أو على بقعة نجسة، وهذا من أعظم الدلائل وأقوى البراهين لتطابق النظافتين واجتماع الطهارتين حسًّا ومعنىً، ظاهرًا وباطنًا، وهذا التطهر أول شروط الصلاة، قال تعالى مفصلًا هذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة : 6].

أرأيتم عباد الله! كيف جمعت هذه الآية الكريمة عناصر الطهارة الكبرى مع تيسير عظيم، ورفع للحرج وتمام للنعمة؟!

أول هذه العناصر، الوضوء، وأعضاؤه: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان، وصفته: أن ينوي المتوضئ بقلبه رفع الحدث، ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات، ويبالغ في المضمضة؛ بأن يدير الماء إلى أقصى فمه، ويبالغ في الاستنشاق؛ بأن يجتذب الماء إلى أقصى أنفه، إلا أنه يكون صائمًا، فإنه لا يبالغ في المضمضة والاستنشاق خشية أن يذهب الماء إلى حلقه، ثم يغسل وجهه من منابت الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولًا، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، واللحية من الوجه يجب غسل ظاهرها ولو طالت، ويستحب تخليل باطنها بالماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح جميع رأسه، بأن يضع يديه مبلولتين بالماء على مقدم رأسه، ويمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، والأذنان من الرأس يمسح ظاهرهما وباطنهما، وذلك؛ بأن يدخل أصبعيه السبابتين في خرقي أذنيه، ويدير إبهامين على ظاهرهما، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، ويجب تعميم أعضاء الوضوء بجريان الماء عليهما، فإن بقي منها شيء لم يصل إليه الماء لم يصح وضوؤه؛ لما روى عمر رضي اللَّهُ عَنْهُ أن رجلًا ترك موضع ظفر من قدمه اليمنى، فأبصره النبي ﷺ فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» رواه مسلم.

وإذا كان في بعض أعضاء الوضوء جرح يتضرر بالماء، فإنه يجنب الماء الجرح، ويغسل باقي العضو ويتيمم عن موضع الجرح، وإن كان على الجرح غطاء من ضماد أو جبس ونحوه، فإنه يمسح عليه بالماء، ويكفيه عن غسله، وإذا كان على قدميه خفان أو جوربان صفيقان؛ فإنه يمسح عليهما يومًا وليلة إذا كان مقيمًا، وثلاثة أيام بلياليها إن كان مسافرًا.

أيها المسلمون! إذا فرغ من الوضوء استحب له أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ لما روى عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي ﷺ أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء» رواه مسلم، وزاد الترمذي: «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين» والحكمة من قول هذا الذكر بعد الوضوء؛ ليجمع بين طهارة الباطن بشهادة التوحيد، وطهارة الظاهر بالوضوء.

عباد الله! هذا الوضوء لا يحافظ عليه إلا مؤمن، وهو من صفات الإيمان «الطهور شطر الإيمان» وهو علامة لهذه الأمة، فيعرفون به يوم القيامة، جاء في الحديث: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء». والوضوء يغسل الخطايا، ويمحو الذنوب: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره» وفي حديث عثمان رضي اللَّهُ عَنْهُ «من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة».

وفي حديث آخر: «ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء».

أيها المسلمون!

هذا هو الوضوء، وهذا فضله وصفته، أي طهارة تنشد بعد ذلك؟ وأي نظافة جسدية وقلبية؟ فأين المتغنون بحضارة الشرق أو الغرب ليدرسوا ويتمعنوا، ولينظروا عظمة هذا الدين؟ وأين كل مسلم ليعتز بهذا الدين الذي يكسبه الخيرية في الدنيا والآخرة، أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ويعيننا على العمل به. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ﷺ .

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

عباد الله: ما عرفناه سابقًا هو الوضوء؛ الطهارة من الحدث الأصغر، أما الطهارة من الحدث الأكبر كالجنابة والاحتلام والحيض والنفاس فيكون لها الاغتسال وجوبًا، وصفته العامة: مرور الماء على الجسد كله حتى بواطن الشعر، أما صفته الكاملة، فينوي الطهارة ويقول: بسم الله، ثم يغسل المسلم موضع الحدث، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغسل رأسه، ثم يمر الماء على جسده بادئًا بشقه الأيمن، ثم الشق الأيسر، وإذا نوى الطهارة من الحدث الأكبر كفاه عن الوضوء بعد الغسل، وما قيل في فضل الوضوء يقال كذلك في الغسل، والحمد لله.

أيها المسلمون!

من لم يستطع الوضوء أو الغسل بأن عجز عن استعمال الماء، أو لم يجد الماء، فالله سبحانه شرع التيمم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6] وصفته أن يضرب بيديه الأرض، ثم يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه، والحمد لله على هذا الفضل العظيم الذي جعل التيمم نائبًا عن الماء في رفع الحدث وإباحة الصلاة في حال عدم وجوده أو صعوبة استعماله لمرض ونحوه، وهذا من تيسير الله تعالى ورفعه الحرج عن هذه الأمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].

عباد الله:

الوضوء والغسل أمانة من الأمانات يجب أن يحافظ عليها المؤمن، ومن أخل بهما لم تصح منه صلاة، وهؤلاء كالذي يتيمم مع وجود الماء، أو لا يهتم بوضوئه، فيبقى شيء من أعضائه لم يصله الماء، وقد رأى عليه الصلاة والسلام أناسًا يتوضؤون وهم مستعجلون فقال: «ويل للأعقاب من النار».

أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا وأعمالنا وجوارحنا وأقوالنا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل فقال جل من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.