home-icon
التحذير من وسائل الشرك

الخطبة الأولى

الحمد لله إقرارًا بوحدانيته، اختص أهل الصدق والتوحيد بصدق معاملته، ومنّ على العاصي بقبول توبته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المفضل على جميع بريته ﷺ وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجه وملته.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن لاذ به حماه، وأسعده ولا أشقاه.

أيها المسلمون!

أعظم نواقض التوحيد، ومفسدات العقيدة الشرك بالله سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]، أمره عظيم ومصيبته كبرى، يخرج صاحبه من الملة، ويخلده في النار، ولا يغفر له ذنب، وقد عرفنا هذا الشرك وأنواعه وخطره، فحري بالمسلم أن يبتعد عنه، وأن يحذر من قربه، ويسأل الله أن يعيذه منه، وأن يتجنب الوسائل المؤدية إليه، والموقعة في شراكه؛ ليقدم على ربه وصفحته بيضاء نقية منه.

أيها المسلمون!

والوسائل المؤدية إلى الوقوع في الشرك كبيرهِ وصغيرهِ متعددة وكثيرة وخطيرة. منها: الغلو في الصالحين، وإطراؤهم، والتجاوز في مدحهم والكذب فيه، ووضعهم في منزلة فوق منزلتهم، وهذا الغلو هو الذي أوقع قوم نوح في الشرك، فعندما غلوا في صالحيهم، وصوروهم، ووضعوا لهم تماثيل، فجاء من بعدهم، فظنوا أن هؤلاء لم تنصب تماثيلهم إلا لأنهم يستحقون أن يعبدوا، فكانت النتيجة أن عبدوهم.

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس م في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23] قال: «هذه أسماءُ رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت» قال بعض السلف في بيان هذا الأمر: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ولخطورة هذا الغلو حذر الرسول ﷺ منه، ولو كان في حقه عليه الصلاة والسلام، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فقولوا: عبدالله ورسوله» رواه البخاري. والإطراء الزيادة والغلو في المدح والثناء بما لا يستحقه الممدوح.

أيها المسلمون!

ومن الوسائل المؤدية إلى الشرك أيضًا اتخاذ القبور مساجد، ولو كان قصد واضع القبر حسنًا، فيأتي من يظن أن هذا القبر وضع لخصوصية فيه، فيكون مزارًا ومقصدًا تشد إليه الرحال، ويطاف به، ويعتقد فيه من الاعتقادات الباطلة، فيطلب الشفاء من صاحب القبر، وتشكى إليه الحال، وقلة الزاد، والفقر والهم والغم، ورفع المصائب والأزمات عنهم، ونحو ذلك.

وقد حذَّر النبي ﷺ من هذا الأمر تحذيرًا بالغًا، وشنّع من فعله، جاء في الصحيحين عن عائشة ك أن رسول الله ﷺ قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا. وروى مسلم ‏:‏ عن جندب بن عبدالله رضي اللَّهُ عَنْهُ أن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بخمس سنين: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»

وما بليت الأمة المسلمة اليوم في عصورها المتأخرة بأشد مما بليت بالتعلق بهذه الأوهام، والتمسك بهذه المعتقدات الباطلة التي يزينها الشيطان في نفوس كثير من المسلمين بجهل في دين الله ﻷ، وبعد عن تعاليمه، وصفاء عقيدته، إن الأمة حينما تبعد عن الله تعالى، ويكون همها وتعلق قلبها بهذه الوسائل، فإن الله سبحانه يتخلى عنها وتبقى في ذيل القائمة تابعة لا متبوعة.

أيها المسلمون!

ونحن نحذر من التعلق بالقبور والأضرحة، ينبغي أن نعلم أن زيارة القبور للدعاء للميت، وتذكر الآخرة وصلة الرحم، وللتأمل والمحاسبة، زيارة شرعية أمر بها الإسلام وحث عليها، وهذا هو المنهاج الشرعي في زيارة القبور، فلا تعظم ولا ترفع عن الأرض إلا شيئًا يسيرًا، ولا يعلق عليها صور أو تماثيل أو مصابيح ونحوها، روى مسلم ‏:‏ عن أبي الهياج الأسدي رضي اللَّهُ عَنْهُ قال: قال لي علي رضي اللَّهُ عَنْهُ : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ «أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته».

أيها المسلمون!

ومن الوسائل المؤدية للشرك بالله: التساهل بالألفاظ أو الكلمات، أو التعابير المتعلقة بالله سبحانه وتعالى دون التأمل والنظر والتأكد من سلامتها، فقد توقع في الشرك الخفي، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد، كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر، وهو لا يقصدها مثل قوله: «والله وحياتِك، أو حياتي، وقول: ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وفلان»، ويدخل في ذلك: سب الدهر والزمان والليالي والأيام، وقد حذر النبي ﷺ من هذه الكلمات والعبارات وأمثالها، وجعلها من الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.

أيها المسلمون!

ومن الوسائل أيضًا: ما يقع في قلوب بعض المسلمين من حب الكفرة وأعمالهم والإعجاب بهم وبأنظمتهم المخالفة لشرع الله، أو تفضيلهم على المؤمنين، مناقضين أصل الولاء والبراء لله ورسوله وللمؤمنين والبراءة من الكفر وأهله.

ومنها أيضًا: ما يقع عند بعض الناس من رغبتهم في التحاكم إلى غير شرع الله ﻷ، وإن كانوا يقرون بأن شرع الله أعظم وأفضل، ولكن حيث إن شرع غير الله يحقق لهم مصلحة دنيوية، أو يتمشى مع هوى ومزاج، فقدموا ما يتوافق مع مصالحهم على خضوعهم لشرع الله.

أيها المسلمون! إن تعامل كثير من المسلمين مع بعض مقتضيات عقيدة التوحيد ينبىء عن ضعف وخطر وغبش في عقيدتهم وتوحيدهم، فلينتبهوا لذلك ويصححوا أخطاءهم، ويجردوا أعمالهم وألسنتهم من كل ما يوقعهم في محذور، جنبني الله وإياكم وسائل الشرك وذرائعه، وطهر قلوبنا من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله سهّل للعباد طرق العبادة ويسَّر، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، نبي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر، أما بعد:

عباد الله: تجري الليالي والأيام وتتجدد، والغافلون الهازلون في غمرة ساهون، وكأنما رضيت أمتنا- أمة الإسلام- في عصورها المتأخرة وأوضاعها المتردية ألا تأخذ من الحياة إلا الهامش ولا تهتم إلا لجزئها العابث، فلا تراها إلا في ذيل القائمة تتأثر ولا تؤثر، وتقاد ولا تقود، وكأنما همها أن تعيش عيشة الصعاليك على تقاليد الأمم وفضلاتها، لا تتميز بعقيدة، ولا تعتد بشخصية، ولا تفاخر بدين ولا مبدأ.