
الخطبة الأولى
الحمد لله علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، بارئ النسم، وموجدها من العدم، وعلَّمها ما لم تعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد ﷺ أرسله ليكون هادي الأمم، فانقشعت بنوره الظُّلم، فهو خير من تعلَّم، وعلَّم، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله يعلمكم الله، ويزدكم من فضله وإحسانه، ويسبغ عليكم من نعمه وآلائه وعلى آله وأصحابه أهل العلم والفضل والشيم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون! اعلموا إن العلم نور القلوب وحياتها، وفيه المخرج من ظلمات الطبع والجهل والهوى، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًۭا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُورًۭا نَّهْدِى بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ۞ صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52-53]، وهو قوام الإسلام، فلا سبيل لنهوض أمة، وسبقها بين الأمم إلا بالعلم، فلذلك قامت الدول بإنشاء المدارس والمعاهد والجامعات، وأنفقت على طلاب العلم، ورسمت المناهج العلمية والتربوية، واعتنت بالتخصصات؛ ليقوم كل فرد من هذه الأمة بمهمته الموكّل بها على أحسن وجه. كل في مضماره وفي تخصصه. بدءًا من أول حلقة تعليمية، ونهاية بأعلى درجات العلم من أجل النهوض بأفراد الأمة إلى الفضل في التحصيل والتعليم.
أيها المربون والمعلمون والموجهون! أيها الأولياء، أيها المتعلمون والدارسون! علينا جميعًا أن نشمر عن ساعد الجد من أول درجات العلم، ولنؤد أعمالنا بعزم وجد واجتهاد وإخلاص. وليقم كل منا بالمسؤولية التي على عاتقه للقيام بعملية التربية والتعليم على الوجه الأكمل والأفضل.
فمن ولاهم الله تعالى مسؤولية الإدارة والتوجيه، عليهم القيام بهذه المسؤولية، ومحاولة النهوض بمؤسساتها التعليمية على الأفضل والأكمل، ومتابعة الإشراف والتوجيه التربوي والتعليمي، وليعلموا أن عليهم مسؤولية عظيمة سيسألون عنها يوم القيامة: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ومن ولاهم الله تعالى مسؤولية التعليم والتدريس عليهم أمانة عظيمة، أمانة تربية الأجيال وتعليمهم وتوجيههم وتثقيفهم، فالأستاذ يقوم بمهمة جليلة هي مهمة محمد ﷺ، فهو معلم وداع إلى الله، ومرشد إلى الخير، ولذا عليه أمور عظيمة يجب أن يتبينها، ولكن تطبيقها سهل وميسور على من وفقه الله تعالى، وأهم هذه الأمور:
أولاً: الإخلاص، وهو من أول المطالب في كل عمل ومطلوب في هذا العمل الجليل؛ لأن المعلم في مقام الداعي إلى الله، وفي مقام المربي، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وفي مقام الأب والأخ، يجب عليه أن يخلص في عمله، يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، وكل ما يأخذه من عرض الدنيا، فإنما هو تابع ووسيلة لإعانته على أداء مهمته، وليست غاية يسعى لها.
والإخلاص عمل قلبي لا يطلع عليه أحد إلا الله، ولكنه يتجلى في أمور عديدة، وثمرته تبدو واضحة جلية في مجال التعليم، ومن هنا نرى الفرق واضحًا بين معلِّمَين تساويا في أمور كثيرة، ولكنهما اختلفا في الإخلاص.
ثانيًا: أن يكون المعلم ملمًا بمادته فاهمًا لها فهمًا كاملًا محيطًا بها من جميع جوانبها؛ لأنه لا يستطيع أن يوصلها إلى طلابه وتلاميذه إذا لم يكن متقنًا لها، وإن من أعظم مقومات شخصية المعلم قوته في علمه، وفهمه لمادته، وقوته، وملاحظته ومتابعته لما يجد في مادته. إنه ليس عيبًا على المعلم أن يسأل من يرى فيه من القدرة والخبرة السابقة إذا لم يكن مستوعبًا لمادته أو اعترضته بعض الموضوعات التي لم يستوعبها بل ذلك هو الواجب عليه، كما أنه ليس عيبًا أن يؤجل الإجابة على أسئلة تلاميذه إذا لم يكن مستوعبًا لها، بل العيب أن يجيب خطأً، وبالتالي لن يثقوا به، ولا بمعلوماته.
ثالثًا: أن يكون المعلم قدوة صالحة لطلابه، فللمعلم مكانة في نفوس تلاميذه يقتدون به، ويأخذون عنه السلوك والأخلاق، كما يأخذون عنه المادة العلمية، فإن كان قدوة صالحة متصفًا بالسلوك الحسن والأخلاق الحميدة، أخذوا عنه الصلاح وحسن السلوك، وإن كان غير ذلك ترتَّب عليه أمران:
الأول: أنهم لا يأخذون عنه ما يعلمهم إياه، وإن أخذوا عنه أخذوه مجردًا عن الروح والمعنى سرعان ما يتلاشى أثره من نفوسهم، ويذهب مع ورقة الامتحان.
الثاني: أن يكون قدوة سيئة، وعنصرًا فاسدًا يتصف طلابه بصفاته، ويأخذون عنه السلوك السيء والأخلاق المشينة مما يكون له أكبر الأثر السيء على المجتمع بأكمله.
رابعًا: أن يكون المعلم متحليًا بالأخلاق الكريمة التي تُعينه على أداء مهمته كالصبر والتحمل، فالتعليم مهمة شاقة تحتاج إلى ذلك، فيتحمل ما يصدر من تلاميذه من هفوات أو نقص، لأن المعلم يؤمل فيه طلابه الكمال وجودة التحصيل وحسن السلوك، ومن عادة الطالب أن يصدر منه ما يغضب معلمه في بعض الأوقات، ومما يعينه على ذلك المعاملة الحسنة مع طلابه والعلاقة الطيبة بهم، يحترمهم كما يجب عليهم احترامه، ويقدر آراءهم واختلاف مستوياتهم في الإدراك وغيره، يعاملهم بالتعامل المتزن لا بالعنف الذي يذهب روح التعلم وثمرته، ولا بالفوضى التي تقضي على التحصيل والانضباط والأدب.
خامسًا: أن يكون المعلم مؤمنًا برسالته، مقتنعًا بعمله، قد التحق في سلك التعليم والتدريس عن رغبة واختيار، فذلك من أهم الأمور التي تساعد على نجاح المعلم في مهمته العظيمة.
سادسًا: على المعلم مراقبة الله تعالى في السر والعلن والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، فإنه أمين على ما أودع من العلوم، وما منح من الحواس والفهوم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [ الأنفال: 27].
وقال الشافعي: «ليس العلم ما حُفظ، العلمُ ما نفع» وعليه بدوام السكينة والوقار والخشوع والتواضع لله والخضوع.
كتب مالك إلى الرشيد رحمهما الله: إذا علمت علمًا فليُرَ عليك علمه وسكينته وسمته ووقاره وحلمه؛ لقوله ﷺ: «العلماء ورثة الأنبياء»، وقال عمر رضي الله عنه: «تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار».
أيها المسلمون! اتقوا الله، سبحانه وتعالى، وقوموا بمسؤولياتكم خير قيام؛ ليؤدي العلم ثمرته المرجوة، وخاصة ونحن في بداية العام الدراسي، تكونوا من المفلحين الفائزين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة رسوله ﷺ، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله. صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الآباء، إن مهمة التعليم ليست قاصرة على المعلم فقط، فالمعلم هو الوسيلة لإيصال هذا العلم، ويحتاج إلى من يساعده في ذلك، ويشد عضده ليقوم بمهمته الجليلة، وإنك أيها الأب، وولي أمر التلميذ أكبر مساعد للمعلم في نجاح مهمته؛ لأن التلميذ ابنك، وائتمنت الأستاذ عليه، فعليك بمساعدته؛ وذلك بالاتصال بالمدرسة بين وقت وآخر؛ لتتطلع على أحوال أبنائك، ولتتعرف على معلميهم، فأنت قد سلمته فلذات كبدك، وواجب عليك أن تعرف من سلمته هذه الأمانة، هل هم أهل لها وأهل لرعايتها، أم أن الأمر خلاف ذلك؟
أيها الأب: إن كان على المؤسسة التعليمية واجب الإشراف والتوجيه والمتابعة، وإن كان على المعلمين واجب التعليم والتربية والتثقيف، فعلى أولياء الأمور التعاون مع السابقين، وعليهم تفقد أولادهم، ومتابعتهم في المدرسة والشارع والبيت؛ لكي تثمر العملية التعليمية المرجوة منها.
وليعلم الجميع أن الله سائل كل راع عما استرعاه مديرًا وأستاذًا وولي أمر، حفظ أم ضيع؟ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
أيها الطلاب: إن ما سمعتموه من عظم المسؤولية على المعلم وولي الأمر، يستوجب معونتهم في ذلك بالاتجاه إلى الجد والاجتهاد والتحصيل النافع، فتعلمـوا العلـم. روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «مـن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وعلى الطالب أن يحافظ على وقته، فلا يضيع شيئًا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة، فإن بقية عمر المؤمن له قيمة عالية غالية، ومن استوى يوماه فهو مغبون، وعليك بالصبر والتحمل والمصابرة، فقد قال الشاعر:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقال الشافعي ينصح طلابه: «حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلـم، والصبـر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون».
وإن مما يعين على ذلك الصحبة الطيبة التي شبهها الرسول، ﷺ، بحامل المسك، فعلى الطالب أن يختار من زملائه أهل الجد والاجتهاد والحرص، وأهل السلوك المستقيم، فهم خير من يعين على ذلك، قال الشافعي:
عن المرء لا تسأل تَسَلْ عن قرينــه فكل قرين بالمقارن يقتــدي
وعلى الطالب أن يحترم أستاذه ويقدره، فقد كانت هذه سيرة السلف الصالح، فقد كان الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه مع جلالته وقدره يأخذ بركاب ناقة زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه ويقول: «هكذا أُمرنا أن نفعل مع علمائنا»، وقال أحمد بن حنبل لخلف الأحمر رحمهما الله، وهو أحد علماء اللغة: لا أقعد إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه.
ويقال: «إنما ينتفع المتعلم بكلام المعلم إذا كان في المتعلم ثلاث خصال: التواضع، والحرص على التعلم، والتعظيم للعالم؛ فبتواضعه ينجح في العلم، وبحرصه يستخرج العلم، وبتعظيمه يستعطف العالم». فاحرصوا على ذلك، وفقكم الله وسدد خطاكم وجعلكم ذخرًا لأنفسكم ولأسركم وللعباد والبلاد.
هذا وصلوا وسلموا على سيدنا ونبينا محمد كما أمركم الله جل وعلا بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

الإيمان باليوم الآخر (3) (نعيم الجنة وعذاب النار)
الخطبة الأولى الحمد لله، وكفى، أحمده سبحانه، وأشكره، وأسبحه، وأقدسه، لم يزل بنعوت الجلال، والكمال متصفًا، وأشهد أن لا إله...

توحيد الله في أسمائه وصفاته
الخطبة الأولى الحمد الله القائل: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ...

حقوق الزوجين (2)
الخطبة الأولى الحمد لله، معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أسبغ علينا نعمه المتوالية، وآلاءه المتتالية أحمده سبحانه وأشكره، من...

توحيد الله في أفعاله (الربوبية)
الخطبة الأولى الحمد لله رب الأرباب ومسبب الأسباب وهادي العباد، المنزه عن الشركاء والأمثال والأنداد، أحمده سبحانه وأشكره شكرًا لا...

وقفات مع اليهود وتاريخهم
الخطبة الأولى الحمد لله ذي الجلال والكمال، أحمده سبحانه على نعمه في كل حين وحال، وأشهد ألا إله إلا الله...