home-icon
مَظَاهِرُ ضَعْفِ التَّوْحِيدِ وَسُبُلُ عِلاجِهِ

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمدك، ونستعينك، ونستغفرك، ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، لك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد كالذي نقول، وخيرًا مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الهالكين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وزوجاته أمهات المؤمنين، وأصحاب الغرّ الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله!

اتقوا الله ربكم، تزكو نفوسكم وتصلح أحوالكم، وتستقيم شؤون حياتكم، وتفوزوا برضا ربكم، وتدخلوا جنة مولاكم.

أيها المسلمون!

لقد سارت بنا خطب الجمع الثلاث الماضية مسيرة موجزة بيانًا للتوحيد، وتوضيحًا لأهميته، وعظم شأنه، توحيد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، من قام بهذا التوحيد فاز بتلك النعم العظيمة، وجاز تلك الفضائل الجسيمة.

أيها المسلمون!

غير أن الناظر في تعامل كثير من الناس اليوم – وعلى مر التاريخ- مع أوجب الواجبات، وأهم المهمات ليرى عجبًا من تساهلهم في تطبيق هذا التوحيد، يظهر ذلك بوضوح في ارتكابهم لأخطاء تخدش أصل التوحيد، وتخرج صاحبه من الملة، وتخلده في النار، وأخطاء أخرى تنقص كماله، وتعرض صاحبه للعقوبة والعذاب، والخسارة في الدنيا والآخرة.

هذه الأخطاء العظيمة نستعرض بعضًا منها بيانًا لها، وتنبيهًا لمن وقع فيها عسى أن يتدارك أمره قبل فوات الأوان.

رأس هذه الأخطاء، ومصدرها عدم معرفة الله تعالى حق معرفته، وعدم استشعار تلك المعرفة، أو تجاهل تلك المعرفة، ومن وقع في هذا الخطأ الجسيم، هان عليه كل أمر، فلا رادع يردعه عن المعصية، ولو كانت شركًا أكبر، فضلًا عن المعاصي الأخرى، أو شركًا الأصغر، فمثلُ هذا فتح المجال لهواه وشيطانه ونفسه، فقادوه إلى المهالك، وأوقعوه في أردَى الموارد، فتراه متنقلًا بين معصية وأخرى ينام على فراشه خاتمًا يومه بذنب اقترفه، مستيقظًا على آخر، غافلًا عن أوامر ربه، ناسيًا أو متناسيًا تعاليم مولاه، يتقلب في بحور الشهوات البهيمية، وقلبه مليء بالشكوك والشبهات الشيطانية، لا يقر له قرار في عبادة، متشاغلًا بأمور دنياه عن دينه، نسي أو تناسى أن الله تعالى أخبر عن نفسه سبحانه قائلًا : ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59] وأخبر عن نفسه سبحانه بقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. فحري بك أيها المسلم! وأنت تنتمي إلى هذا التوحيد أن تستشعر عظمة ربك وخالقك ومولاك، وأن تعظم أوامره، وتقف عند حدوده، وتجتنب ما نهاك عنه.

أيها المسلمون:

ومن مظاهر ضعف التوحيد في النفوس، بل هو من أعظمها وأشدها خطرًا، التعلق بغير الله سبحانه وتعالى، والركون إلى المخلوقين أحياءً وأمواتًا، والتشفع بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، وطلب الحاجات والمدد منهم، ودعاؤهم والاستغاثة بهم، والطواف حول قبورهم وأضرحتهم ، وطلب شفاء الأمراض منهم ، ومثل ذلك التعلق بالسحرة والمشعوذين، وتصديق الدجاجلة والكذابين، والركون إلى الكهنة والمنجمين، وبذل الأموال الطائلة لهم، وتلبية تعاليمهم وأوامرهم، ولو كانت كفرًا بواحًا كالذبح للشياطين، وتمزيق كتاب الله تعالى، ودوسه بالأقدام، أو رميه في الحمام، أو البول عليه، ونحو ذلك من الكفريات الصريحة، كذلك طلب أحوال المستقبل وتصديقهم فيها، وبناء حياتهم عليها، ومثله تعلق القلب حال الإصابة بمصائب وأمراض بهم، أو التعلق بالطبيب والاعتماد عليه من دون الله، واعتقاد أن الشفاء بأيديهم، والنفع والضر عندهم، فهذه كلها وأمثالها من أعظم المنكرات، وأفدح الأخطاء القادحة في التوحيد؛ إذ هي شرك أكبر مخرج عن الملة، فهل يتنبه من وقع فيها أو في أحدها وأمثالها فيصحح وضعه، ويقوم نفسه، وينقي توحيده، ويعود إلى ربه؟

ومن مظاهر ضعف التوحيد: التكاسل عن أداء العبادات والتثاقل في فعل الطاعات، وإن أدّاها فحركات جوفاء يؤديها بجسده، وقلبه يتقلب في أحوال الدنيا، وأمثال هؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى في المنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].

ومن مظاهر ضعف التوحيد؛ الوقوع في المعاصي واستسهالها واستمراؤها والإصرار عليها، وعدم القلق حال ارتكابها أو الخوف من نتائجها، وأعظم من ذلك المجاهرة بها، والتحدث عنها، أو التفاخر فيها وإشهارها، وكأنها من النعم المسداة إليه، جاء في الحديث الصحيح: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملًا بالليل وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» وإن من المجاهرة ترك الصلاة لجار المسجد والقريب منه، وحلق اللحى، وشرب الدخان علانية، وغيرها مما لا يخفى.

ومن مظاهر ضعف التوحيد في النفوس: الخوف من المستقبل، خوفه من عدم رزقه، أو على رزق أولاده، وهلع النفس تجاه ذلك، والقلق الشديد فيـه، ومثل هذا لم يستشعر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدّر المقادير كلها، وأن الغنى والفقر، والرخاء والشدة كلها بيد الله وحده، وأنه هو الذي يعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى من حكيم عليم.

إن الذي يقع في هذا الخوف قد أخطأ على نفسه وجنى عليها ولم يتوكل على ربه، ولم يؤمن بقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ وَأَشْهِدُوا۟ ذَوَىْ عَدْلٍۢ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًۭا ۞ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِۦ ۚ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍۢ قَدْرًۭا ﴾ [الطلاق: 2- 3].

ومن مظاهر ضعف التوحيد: التعلق بالدنيا وملذاتها وشهواتها، والنظر بعين الغيرة والحسد إلى من أوتي حظًّا كبيرًا منها، واعتبار السعادة، وبلوغ الأماني في الحصول عليها، والبعد عن الآخرة وضعف العمل لها، فتجد مثل هذا ممسكًا ماله حريصًا عليه، لا ينفق في معروف، ولا يعطف على مسكين، ولا يرحم يتيمًا، ولا يحسن إلى فقير، يخشى الفقر، ويأمل الغنى، مسرفًا في شهوات نفسه، ولو كان في الحرام، مقترًا في الواجبات فضلًا عن المستحبات.

أيها المسلمون:

إن من الخير للمسلم، وقد أمده الله بعمر ووقت، وأنعم عليه بنعم لا تحصى، حري به أن يتحسس نفسه، ويتبين مواضع نقص التوحيد عنده، ونقاط الضعف فيه، فيحاسب نفسه، ويجدد العهد مع ربه، ويعالج النقص الذي وقع فيه قبل أن يندم، ولا تنفع ساعة الندم.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، واختم لنا بالخير أجمعين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله رب العالمين، لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية

الحمد لله العزيز الغفار، يكوِّر النهار على الليل، ويكوّر الليل على النهار، أحمده سبحانه وأشكره، على فضله المدرارِ، ونعمه الغزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها دخول الجنة، والنجاة من النار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، وعلى آله وأصحابه الذين وحدوا ربهم، ولم يعظموا القبور والأحجار والأشجار، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:

أيها المسلمون!

إن المسلم الحق هو الذي يصوغ حياته كلها على هذا التوحيد الخالص، وينطلق في جميع فرعيات معتقداته وسائر أعماله من هذا التوحيد، ويعدل سلوكه ويقيم تصرفاته ويبني علاقاته على هذا الأساس المتين، والقاعدة الراسخة، ويعمل الوسائل والأسباب المعينة على تمكين التوحيد وترسيخه في القلوب، وتثبيته في النفوس وظهوره على اللسان، والعمل به بالجوارح والأركان، فهو كالشجرة اليانعة المثمرة كلما سقيت نمت وترعرعت.

أيها المسلمون!

من أهم هذه الوسائل التي يعالج بها تلك الأخطاء السالف ذكرها في الخطبة الأولى: التعرف على الله حق معرفته، فيعرف العبد أن الله تعالى خالقه ورازقه ومحييه ومميته، ومدبر أمره كله، وشافيه وكافيه، ومصرف أحواله، وعالم خفياته والمطلع على سره ونجواه، فمن عرف الله تعالى حق هذه المعرفة وحّده في طاعته وعبادته.

ومن الوسائل أيضًا: استشعار عظمته سبحانه، وتصـور ذلك كله في كل قول يتلفظ به العبد، أو عمل يقوم به، أو تصرف يمارسه، أو اعتقاد يختلج في صدره، فإذا كان كذلك عبده حق عبادته.

ومن وسائل تقوية التوحيد وعلاج أخطائه: العمل في الفرائض التي فرضها الله تعالى على العباد، والحرص على ذلك، والمداومة عليها، واستشعار وجوبها، وتصور فضلها وقد أخبر الرسول ﷺ عن ربه أنه ما تقرب إليه عبدٌ بأحب مما افترضه عليه، ومن أحب مولاه نفذ أوامره، ولبى طلباته، وقام بفرائضه، وواجباته.

ومن وسائل تثبيت التوحيد في النفوس: تجنب المعاصي صغيرها وكبيرها، فلا تنظر إلى صغر ذلك الذنب ثم تستهين بتلك المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، ومن ترك المعاصي واستشعر عظم الذنب حري بأن لا يخدش توحيده، بل يكون ذلك عاملًا قويًا في تثبيته ونمائه.

ومن الوسائل أيضًا : التزود بالعلم الشرعي لمعرفة ما يجب عليك تجاه ربه، ولمعرفة أحكام الحلال والحرام، وما يقرب إلى المولى وما يزيد في محبته وتعظيمه فالعلم نور الأبصار والبصائر، وضياء القلوب، ومنير العقول، به يعرف الحق من الباطل، ويميز الخطأ من الصواب، وهو ميراث الأنبياء وخير الأعمال النوافل، فليحرص العبد على هذا العلم فيتعلم ويسأل ويناقش وقد تيسرت ولله الحمد سبل العلم والتعلم .

ومن الوسائل أيضًا: الإكثار بقدر ما يستطيع العبد من نوافل العبادات فهي تجبر النواقص من الفرائض، وترفع الدرجات وتكفر السيئات، وتقوي الإيمان، وتعمق التوحيد، وتورث الخشية، ويتبع ذلك : الإكثار من الأذكار، وقراءة القرآن، وبذل الخير والمعروف، ونفع الناس وحبهم ومودتهم.

ومن الوسائل أيضًا المثبتة للتوحيد والمعالجة لأخطائه: تطهير القلوب من الحسد والحقد، والبغض والكره، وحب أذى الناس والفرح بما يقع عليهم من الإيذاء، فطهارة القلب وحب المسلمين من عوامل تقوية الإيمان وقوة التوحيـد.

فاتقوا الله عباد الله وراقبوا توحيدكم وجددوه في نفوسكم وقوموا بالعوامل المساعدة لكم في ذلك وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، كما أمركم الله تعالى في محكم التنزيل فقال جل من قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.