home-icon
من معاني تدبر القرآن الكريم

الحلقة الأولى: فضل تدبر القرآن الكريم:

إنَّ من خير ما تقرَّب به المسلم إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت، وفي شهر رمضان خاصة، قراءة القرآن الكريم وتدبره، فقراءة القرآن وترتيله، ومن ثَمَّ تدبره، من أعظم أبواب انتفاع القلب، ولهذا قال ربنا جل في علاه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نـزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون﴾ [الحديد: 16] فالقرآن الكريم من مقاصد إنزاله العظيمة تدبره والعمل به، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]. قال الإمام الطبري رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع الله فيه من الشرائع فيتعظوا ويعملوا به.

وقال جل جلاله: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].

وهي بشرى للمؤمنين فالهداية للخير وللطريق المستقيم عن طريق هذا الكتاب الكريم.

وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن تدبر القرآن من النصح لكتاب الله الوارد في حديث الرسول ﷺ: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».

وقال الله ﷻ: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]. قال الإمام النووي رضي الله عنه: «ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، وهذا هو المقصود وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب».

الحلقة الثانية: توحيد اللـه جل جلاله ومعرفته:

إنَّ من أعظم المعاني التي يستشعرها المسلم في تدبره للقرآن الكريم، بل هو أعظم المعاني وأجلها:

توحيد الله جل جلاله:

وتوحيد الله على ثلاثة أنواع:

الأول: توحيد الربوبية وهو الإقرار الجازم بأن الله وحده ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه الخالق للعالم، المحيي المميت، الرزاق ذو القوة المتين، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له، ولا مماثل، ولا سمي، ولا منازع له في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته.

قال الله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وقال جل جلاله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]. إنه الله الذي يسجد له من في السموات والأرض ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩﴾ [الحج: 18].

النوع الثاني من أنواع التوحيد: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة؛ الظاهرة، والباطنة، قولًا، وعملًا، ونفي العبادة عن كل من سوى الله تعالى كائنًا من كان.

ولهذا أعظم آية في القرآن الكريم، والتي من تدبرها حصل على خير كثير وأجر كبير: آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]. إنَّها: لا إله إلا الله، التي من أجلها أُرسل الرسل وأُنزلت الكتب، قال الله جل جلاله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].

الحلقة الثالثة: توحيد اللـه جل جلاله ومعرفته:

أمَّا النوع الثالث من أنواع التوحيد، توحيد الله بأسمائه وصفاته، فيثبت المسلم لله ما أثبته لنفسه في كتابه وفي سنة رسوله ﷺ الصحيحة من الأسماء والصفات، وينفي عنه جلال جلاله ما نفاه عن نفسه في كتابه وسُنة رسوله ﷺ الصحيحة، من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

يقول الإمام ابن القيم: «الأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية: والأمر اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتكوين فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح. فعِلم العبد بتفرد الربِّ تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكُّل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.

وعِلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله ﷻ وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح.

ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته، توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها».

الحلقة الرابعة: توحيد الله جل جلاله ومعرفته:

إنَّ من معاني التعرف على الله تعالى التي تدعونا لتدبر القرآن الكريم، معرفة أنَّ الله جل جلاله غفور رحيم يقبل توبة التائبين وندم النادمين، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 110] ، وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

لكن لنتذكر قول الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۞ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49 ، 50].

ومن المعاني العظيمة التي يتدبر بها القرآن الكريم: معرفة أن الله سبحانه وتعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
وإنَّ من معاني تدبر القرآن: معرفة أنَّ الله مطلع عليك يعلم جهرك وسرَّك، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7].

وقال تعالى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، وقال سبحانه: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴾ [الأعلى: 7].

ومن معاني تدبر القرآن: النظر إلى الآيات الكونية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وبيَّن أنها إحدى مخلوقاته، فنحن -بني آدم- خلقنا ربنا في أحسن تقويم، إننا خلق الله الذي خلقنا من تراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 5 -6].

وخلق الله السموات والأرض وهي أعظم من خلق الناس ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57]. وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۞ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۞ وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ۞ وَإِلَى ٱلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 – 20].

icon1
أحدث المقالات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فلا شكَّ أنَّ السنة النبوية المتمثلة في أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته...

يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۞ الْحَقُّ مِنْ...

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمن الأمور التي يثلج صدور...

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإنَّ القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى لهذه الأمة، أراد الله جلَّ وعلا...

خطوات عملية لاستثمار يوم عرفة العظيم تعظيم هذا اليوم بتذكّر فضله ومكانته عند الله كيف وقد أقسم به ( وشاهدٍ...