home-icon
لكلٍّ وجهة هو موليها

يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۞ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۞ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 146 – 148].

هذه آيات عظيمة جاءت في سياق قضية تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، لكنها ترسم بعموميتها في الاستدلال منهجًا عظيمًا يمكن إظهار معالمه وأبعاده فيما يأتي:

الـمَعلَم الأول: علم أهل الكتاب بصدق النبي ﷺ:

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ أي: هؤلاء الكفار من أهل الكتاب يعلمون تمام العلم، ويعرفون صحة ما جاءهم به النبي ﷺ كما يعرف أحدهم ولده، وقد كان العرب في ذلك الوقت يقولون: إن فلانًا يعرف كذا مثلما يعرف ابنه، ونحن لو جئنا إلى مكان فيه مجموعة كبيرة من الأطفال وقد اختلط بهم طفل فإن والده يعرفه تمامًا من بينهم، رغم أن الخلق واحد: عينان وأنف وفم ووجه، إلخ، فلقوة المعرفة عبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا التعبير.

فأهل الكتاب يعرفون أن ما جاء به النبي ﷺ هو الحق كما يعرف الرجل ابنه، ولو اختلط هذا الابن بمئات الأبناء.

فإن قيل: لم خص الأبناء من الأولاد؟ قيل: لأن الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم.

وقوله ﷻ: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: يعرفون أنه الحق ولكنهم يكتمونه، وهذه الصفة التي اتصف بها أهل الكتاب قد اتصف بها المنافقون، فإنهم يعلمون أن ما جاء به النبي ﷺ هو الحق ولكنهم لا يظهرونه بل يكتمونه مع علمهم به.

وقوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يعني: لا تكن من الشاكين، في هذا الحق الذي جاءك من عند الله تعالى، ومن هنا يجب على المسلم أن يعتزَّ بالحق الذي معه ولو أنكره المنكرون ما دام واضحًا بيِّنًا. ومما سبق يظهر أن بعض أهل الكتاب يتصفون بكتمان الحق، والشكِّ.

الـمَعلَم الثاني: اختلاف الناس في الوجهات:

قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148] هذه الآية عظيمة، وعلى كل مسلم ومسلمة أن يتأملها جيدًا، فهي تمثل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون كله، وتمثل أيضًا الطريق السليم والمنهج الواضح الذي يجب على المسلم أن يسلكه، فحينما ذكر الله تعالى معرفة أهل الكتاب للحق الذي جاء به النبي ﷺ ، أتبع ذلك بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، وهذه هي سنة الله ﷻ في البشر، كلٌّ له وِجْهَة هو موليها، وسواء كانت وِجْهَةً عقدية في الدين، أو كانت وجهة في الكسب والاكتساب، أو كانت وجهة في الرغبات والقدرات ونحو ذلك.

والحديث هنا هو عن التوجه إلى القبلة، فالمسلمون يتوجهون إلى المسجد الحرام، وغيرهم يتوجه إلى بيت المقدس، والوثنيون وغيرهم من أصحاب الديانات والمِلل الأخرى يتوجهون إلى أصنامهم وأوثانهم، وهكذا، لكن في الوقت نفسه هذه الآية تمثل سنة كونية، وهي: أن كل ما في الكون -بمن في ذلك البشر- لكل منهم وجهة، فالحيوانات التي في البحر كل منها له وجهة، والطيور كل له وجهة، والدواب التي تدب على الأرض من الحشرات الصغيرة وغيرها كل له وجهة، وكذلك الإنس والجن كل له وجهة.

وإذا كان لكلٍّ وجهة فما الواجب اتباعه والعمل به؟ هنا يأتي الربط بين الأمر الكوني والأمر الشرعي، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ فالوجهات متعددة: فهذا نصراني، وهذا يهودي، وهذا وثني، وهذا ملحد، وهذا يتبع ملة كذا، وهذا يتبع مذهب كذا، وهذا متجه إلى كذا، فما الحق؟

قال ﷻ: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فجميع أصحاب الوجهات كلهم سيأتون إلى الله سبحانه وتعالى، والفائزون يومئذ هم أصحاب الخيرات والمسارعون إليها.

ومن الملحوظ هنا أنه لم يقل: استبقوا الخير، وإنما قال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾؛ لأنَّ الخير ليس واحدًا، سواء في الدنيا أو في الآخرة، والخير هو ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ، وهو هنا يتمثل في قضية واحدة، وهي قضية الاتجاه إلى القبلة، وهي لا شك أمر عقدي، فإذا توجه الناس إلى قبلاتهم فنحن -المسلمين- يجب أن نتوجه إلى قبلتنا، وهي المسجد الحرام، وكذلك في جميع شؤوننا نستبق الخيرات، ونسابق إلى فعلها.

ومن الملحوظ أيضًا أنه لم يقل: اسبقوا، بل قال: ﴿فَاسْتَبِقُوا﴾، وفي اللغة العربية إذا زاد مبنى اللفظ زاد معناه، فهذا حث شديد وأكيد؛ فلئلا يفوتك الخير استبق وسابق إليه باستمرار.

وقد جاءت آيات أخرى شبيهة بهذه الآية: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21]، وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، وقوله: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26]؛ فالناس لهم مجالات متعددة، لكن الميدان هو الخير، والخير هو ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ. فليعِ كل مسلم ومسلمة أنَّ الإنس والجن والحيوان والطير وغيرها كل له وجهة، وأنَّ المسلم يجب أن تكون وجهته في هذه الحياة إلى الله سبحانه وتعالى.

وبناءً على هذا فلتسأل نفسك ما وجهتك؟ هل دنيوية وأخروية، أو دنيوية فقط؟ وما مسيرتك؟ وما عملك؟ فالميدان مليء بالمتسابقين، واعلموا ﴿أَیۡنَمَا تَكُونُواْ یُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِی بُرُوجࣲ مُّشَیَّدَةࣲۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةࣱ یَقُولُواْ هَـٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱلـلَّــهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةࣱ یَقُولُواْ هَـٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ ٱلـلَّــهِۖ فَمَالِ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ حَدِیثࣰا﴾ [النساء: 78] أي: فوق أي أرض وتحت أي سماء، ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148] فكل الناس سيأتون إلى الله تعالى في ذلك اليوم العظيم يوم القيامة، سواء كانوا من أهل كتاب أو من المسلمين أو من غيرهم، ومهما كانت توجهاتهم، وهذا يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ومن ذلك بعث الناس وحشرهم إليه جميعًا، فهؤلاء الذين تعددت وجهاتهم وأنماطهم واختلفوا، منهم أهل الخير، ومنهم أهل الشر، سيأتون إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر سهل ويسير؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قادرٌ على كل شيء، و﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من ألفاظ العموم، فمهما حاول الآخرون أن يبتعدوا عن منهج الله سبحانه وتعالى ودينه فإنَّ مصيرهم إليه  وسيجازيهم بما عملوا.

الـمَعلَم الثالث: مصدرية التلقي:

جاء بعد هذه الآية قوله سبحانه: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 150].

فهذا الختام للآية يُشعر بأنَّ المصدر للوجهة الصحيحة هو التوجه نحو المولى جلَّ وعلا في كل شيء، والذي يقود إلى ذلك هو خشيته سبحانه والخوف منه، وهذا من تمام النعمة التي تقود إلى الهداية الحقة، والتي خسرها أهل الكتاب.

فهذا من أهم المعالم في هذه الحياة، فما موقعك منه؟ وبخاصة في وقت الفتن واختلاط الحق بالباطل، وتعدد النظرات والأحوال، وهذا يُلزم المسلم بالتمسك بوجهته الصحيحة كما يتوجه إلى القبلة مستشعرًا خشية الله تعالى، وهذا من شأنه إبعاد الهوى والمزاج والعاطفة عن الدليل الشرعي والعقلي. وفق الله الجميع لما يجب ويرضى.