
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
منزلة السُّنة النبوية:
تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع الإسلامي مع القرآن الكريم، وقد جاءت نصوص قرآنية كثيرة مؤكدة لهذه المصدرية، كقوله تعالى: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، وقوله سبحانه ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92].
إضافة إلى أن للسُّنة النبوية أهمية أخرى، فمع كونها الترجمة العملية للقرآن الكريم والصورة الواقعية لما فيه من أحكام ومعاملات قولًا وتطبيقًا، لقول عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام: «كان خلقه القرآن» فهي تفسِّر القرآن الكريم وتفصل ما فيه من أحكام، فقد فُرضت أحكام القرآن على الناس مجملة وعامة، كما في قول الله جل شأنه في الصلاة: ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾ فالسُّنة النبوية بينت عدد الصلوات وكيفيتها وعدد ركعاتها، وما يقال فيها وما يفعل من حركات، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
وكذلك الحال بالنسبة للزكاة والصيام والربا والجهاد وغيرها من الأمثلة الكثيرة في القرآن الكريم مجملة دون تفصيل حتى فصلتها وأوضحتها السُّنة النبوية المباركة.
وجوب نشر السُّنة النبوية وخدمتها:
بما أن للسُّنة النبوية هذه المكانة في التشريع الإسلامي، فمن واجب الأمة المسلمة حفظها والعمل بها ونشرها وخدمتها بكل الوسائل والإمكانات المشروعة المتاحة.
وقد بذل الأئمة على مدى التاريخ منذ عصر النبي عليه الصلاة والسلام جهودًا عظيمة في ذلك كرواية السُّنة وجمعها، وتصنيفها، والتقعيد لها، وشرحها وتوضيحها، والتأليف في ذلك كله، فجزاهم الله خير ما يجزى عالمًا عن علمه.
وفي هذا العصر نشطت حركة خدمة السُّنة تعلمًا وتعليمًا، وحفظًا ونشرًا بمختلف الوسائل، كما هي في الجامعات والمعاهد وغيرها.
ولعلَّه يذكر هنا بعض المجالات التي ظهرت في خدمة السُّنة النبوية، ونشرها للعمل بها، وهي متاحة للجميع.
أولًا: الإنترنت:
خُدِمت السُّنة النبوية في الشبكة العنكبوتية خدمة كبيرة، من خلال تأسيس المواقع الإلكترونية وصفحات الفيس بوك وغُرف المحادثة وغيرها، فهناك عشرات المواقع الإلكترونية التي تخدم السُّنة النبوية بعلومها المختلفة، تحت إشراف أهل العلم والتخصص المعروفين، وهذه المواقع الإلكترونية تنقل حديث النبي عليه الصلاة والسلام إلى ملايين الناس في العالم، وعلى سبيل المثال شبكة السُّنة النبوية وعلومها، التي بلغ عدد زوارها ملايين المسلمين، وهي شبكة تُعنى بالسُّنة والسيرة النبوية، وعلوم الحديث، كالمصطلح وعلم الرجال والجرح والتعديل والتخريج ودراسة الأسانيد، وكذلك الفتاوى والاستشارات الشرعية والتي يجيب عنها نخبة من أهل العلم المتخصصين، وقد تُرجمت هذه الشبكة إلى عدة لغات عالمية.
ثانيًا: البرامج الإلكترونية:
عجَّت الساحة الإلكترونية بالبرامج الخادمة للسُّنة النبوية بعلومها ومجالاتها المختلفة، عن طريق شركات ومؤسسات تقنية معروفة، فعلى سبيل المثال أنتجت شركة حرف التقنية موسوعة الحديث الشريف، وموسوعة السيرة النبوية وبرنامج صفوة الأحاديث، وبيان ما اتفق عليه الشيخان، ومركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي أنتج المكتبة الألفية للسنة النبوية، والموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف، ومكتبة علوم الحديث وغيرها.
ثالثًا: إنشاء معاهد ومراكز خاصة بالسُّنة النبوية:
مثل مركز خدمة السُّنة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية، حيث يُعنى هذا المركز بإعداد موسوعات في السُّنة النبوية وعلومها، وكذلك السيرة النبوية وجمع المخطوطات والوثائق المتعلقة بالسُّنة النبوية وتحقيق بعضها، وترجمة بعض كتب السُّنة والسيرة النبوية إلى لغات أخرى، إضافة إلى مناصرة النبي عليه الصلاة والسلام ودفع الشبهات المثارة حول السُّنة والنبي عليه الصلاة والسلام.
رابعًا: إنشاء كليات وأقسام علمية متخصصة بالسُّنة النبوية وعلومها، على أُسس علمية:
مثل كلِّية الحديث الشريف في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفيها قسم فقه السُّنة ومصادرها وقسم علوم الحديث، وكذلك مثل قسم السُّنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقسم السُّنة وعلومها بجامعة الملك خالد بأبها، وقسم الكتاب والسُّنة بجامعة أم القرى، وغير ذلك من الكليات المتخصصة.
خامسًا: تأليف الكتب والمصنفات والمقالات والبحوث عن السُّنة النبوية وعلومها:
تكون هذه المؤلفات عن السيرة النبوية وشمائل النبي عليه الصلاة والسلام، ودفع الشبهات وردِّ الأباطيل المثارة حول السُّنة والنبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقصر أهل العلم وطلبة العلم منذ العصور الأولى وإلى الآن في هذا المجال، والحاجة إلى هذا النوع من خدمة السُّنة متجددة دائمًا، وخصوصًا بعد أن تعرضت شخصية النبي عليه الصلاة والسلام إلى إساءات وتشويهات في البلدان الغربية، وهذا يتطلب مزيدًا من التأليف والمقالات وترجمتها إلى اللغات المختلفة، لتعريف المجتمعات غير المسلمة بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وشمائله في كل الجوانب.
سادسًا: القيام بالمشروعات العلمية التي تخدم السُّنة النبوية، عبر دراسات أكاديمية متخصصة:
وذلك مثل جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية للسُّنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة، والتي تهدف إلى تشجيع البحث العلمي للسُّنة النبوية والدراسات الإسلامية بعلومها وفنونها وموضوعاتها المختلفة، وقد أصدرت هذه الجائزة عشرات من البحوث والدراسات المتعلقة بالسُّنة النبوية من قبل الباحثين والمختصين لهذا العلم، من كثير من الدول الإسلامية.
وتُعد الجهود السابقة كبيرة في خدمة السُّنة النبوية، إلا أننا بحاجة دائمة إلى مزيد من البحوث والدراسات، خصوصًا مع التطور التقني والإعلامي الهائل، والاستفادة منه في نشر السُّنة النبوية وعلومها والدفاع عنها وترجمتها إلى اللغات الأخرى، عبر الوسائل المتطورة والإمكانات المتوافرة، ويكون هذا تحقيقًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع».
وقفات مع تلك الجهود:
الوقفة الأولى:
لكي تؤتي خدمة السُّنة النبوية ثمارها الحقيقية وفق ما أراده الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، لا بد من توافر بعض الشروط، ومنها:
أولًا: الإخلاص في العمل في جميع الميادين التي تخدم السُّنة النبوية وتحافظ عليها وتدفع عنها الشبهات والأباطيل، وهو الأساس المتين لكل عمل يقوم به المؤمن، حتى يكلَّل بالنجاح والسداد، لقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:11].
ثانيًا: فهم القرآن الكريم: وهو ضرورة لمن يخدم السُّنة النبوية، لأنَّ القرآن الكريم والسُّنة النبوية يكمل أحدهما الآخر، قال الله جل شأنه: ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، فكلاهما من الله تعالى في الأصل لقول الله جل شأنه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4) ﴾ [النجم: 3-4].
ثالثًا: فهم قواعد التصحيح والتضعيف للأحاديث: والتي من خلالها نصل إلى الحكم على الحديث وبيان درجته، كأن يكون الرواة عدولًا ضابطين، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ، والسلامة من العِلل ونحوها.
رابعًا: خدمة السُّنة النبوية من خلال اتباع النبي عليه الصلاة والسلام قولًا وعملًا في الأمر والنهي، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]. ويلحق بهذا الأمر تربية الأبناء والأجيال على حب النبي عليه الصلاة والسلام واتباع سُنته، وتطبيق المشروعات العلمية والأكاديمية الخادمة لهذه السُّنة المطهرة في الميادين المختلفة.
خامسًا: الحذر من المبالغات في التطبيق وتجنب المحدثات والبدع، كما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، امتثالًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».
الوقفة الثانية: الإسهام المالي لخدمة السُّنة النبوية:
يُعد الإسهام بالمال لخدمة السُّنة النبوية من الأعمال الصالحة العظيمة التي يؤجر عليها المسلم، لأن ذلك يدخل في باب الصدقة الجارية، التي تنتقل منفعتها بين الناس.
وذلك مثل فتح مراكز خدمة السُّنة النبوية، أو التكفل بالإنفاق على دور حفظ الحديث النبوي، أو الإنفاق على طباعة كتب الحديث ونشرها، أو إقامة الندوات حول السُّنة النبوية، أو إنشاء كراسي علمية في الجامعات لخدمة السُّنة النبوية وغيرها من الأعمال التي تعين على نشر سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته.
والمملكة العربية السعودية من أكثر الدول التي ينشط فيها الإسهام المالي لخدمة السُّنة النبوية، سواء من الأفراد من أهل الخير، أو من المؤسسات والشركات التقنية ودور النشر، أو من الدولة نفسها، على جميع المستويات وفي معظم مناطق المملكة.
الوقفة الثالثة:
العمل الإبداعي لخدمة السُّنة النبوية، والذي لا يتوقف على ميدان محدد أو آليات معينة، وإنما يتعدد هذا العمل حسب ما يتمتع به المسلم من العلم والدين والقدرة على العمل مع ملكة المهارة لديه، على جميع المستويات التالي ذكرها:
- المعلم مع طلابه يستطيع حسب مهارته التعليمية والتربوية أن يعرفهم بالسُّنة النبوية ويحببهم إليها، ويحفزهم لقراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام والاقتداء به في العبادات والأخلاق والسلوك.
- الأب يستطيع أن يعلم أبناءه الحديث النبوي ويطلعهم على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، من خلال اقتدائه بالنبي عليه الصلاة والسلام في داخل البيت مع زوجته وأبنائه، وتخصيص أوقات معينة لتدارس الأحاديث النبوية وقراءة السيرة النبوية معهم.
- الأخ مع إخوته في الوقوف على حديث نبوي وحفظه وشرحه ونشره في لوحة أو قرطاس.
وفي كل هذه الأحوال يجب على المبدع، سواء المعلم، أو الأب، أو الأخ، أن يهيئ الأجواء المناسبة لإنجاز العمل الإبداعي في خدمة السُّنة النبوية، بالكلمة الطيبة، والأسلوب الحكيم، ومنح الهدايا والمكافآت للمهتمين والمتفوقين، والاهتمام بالأبناء والطلبة ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، وغيرها من الأساليب التعليمية الأخرى.
الوقفة الرابعة:
طباعة كتب السُّنة والسيرة النبوية ونشرها في الداخل والخارج، وباللغات المختلفة، وخصوصًا بعد ظهور حملات تشويه وإساءة للنبي عليه الصلاة والسلام، وبالرغم من ظهور هذا الجهد في بعض الدول إلا أنه لم يكن بمستوى التحديات التي تواجه السُّنة النبوية.
وتقع مسؤولية هذا الأمر على أولياء أمور المسلمين، على غرار ما قام به الملك عبد العزيز رحمه الله، فقد طبع رحمه الله كثيرًا من كتب العلم والسيرة النبوية على نفقته الخاصة في داخل المملكة وخارجها، منها: البداية والنهاية لابن كثير، وزاد المعاد لابن القيم، وشرح السُّنة للبغوي، ومنهاج السُّنة لابن تيمية، ومختصر سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لمحمد بن عبد الوهاب، وغيرها من الكتب والمؤلفات في مختلف علوم الشريعة.
كما تقع هذه المسؤولية على الوزارات والمراكز العلمية والجامعات والمعاهد، وكذلك التجار وأصحاب الأموال، وعلى أهل العلم والمختصين في السُّنة النبوية، لأنها من العلم النافع، والعمل الصالح الذي يؤجر عليه الإنسان بشكل مستمر.
الوقفة الخامسة:
لإسهام الإعلامي، من خلال تخصيص برامج إذاعية وتلفزيونية عن السُّنة النبوية وعلومها، وقراءات يومية للأحاديث النبوية بموضوعاتها المختلفة، باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية، كالإنجليزية والفرنسية والروسية والأردية ونحوها، وبث مقتطفات عن السيرة النبوية وشمائل النبي عليه الصلاة والسلام بين فترة وأخرى على مدار الساعة.
وكذلك المشاركة الإعلامية في الإنترنت عبر المواقع العلمية والدعوية، وعبر صفحات الفيس بوك، والتويتر، وغرف المحادثات الصوتية، وكذلك عبر المحاضرات والندوات التي تقام في الجامعات والمراكز الثقافية والمساجد، إضافة إلى المشاركات الكتابية بالمقالات والبحوث في الصحف اليومية والمجلات والدوريات العلمية المُحكَّمة.
تلك نماذج وإشارات لخدمة السُّنة النبوية، والباب واسع جدًّا لمن تأمل وتدبر، أسأل الله العظيم أن يجعلنا من الخدمة والحماة لكتابه الكريم وسُنة نبيه عليه الصلاة والسلام، قولًا وعملًا.وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نصرة الأنبياء جميعًا من نصرته عليه الصلاة والسلام
عندما يهب المسلم لنصرة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يهب لنصرة عموم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأننا...

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...