
إنَّ روح التنافس إلى الأفضل غريزة أودعها الله ﷻ في الإنسان، لتكون دافعًا له للارتقاء والتقدم، وتحقيق حياة أفضل لنفسه ولمجتمعه، وما التطور الحاصل للإنسان من الحالة التي كان عليها في الماضي إلى ما هو عليه اليوم إلا نتيجة للتنافس الموجود بين البشر، وما آلت إليه الأمم والدول المعاصرة من تقدم تكنولوجي وعمراني إلا ثمرة لغريزة التنافس، فكل أمة تسعى جاهدة لترقى بنفسها وأبنائها إلى قمة الحضارة والمعرفة في مجالات الحياة المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، حفاظًا على كيانها واستقلاليتها، ودفاعًا عن الأخطار التي تهدد وجودها.
ولولا هذه الروح التنافسية الموجودة لدى الإنسان، لـما تمكَّن من ملاحقة ركب الحضارة، وما استطاع أن يرفع مستواه المعيشي والحياتي، لأنه لن يفكر في الأحسن والأفضل، ثم إنها حكمة ربانية أن جعل الله التنافس بين البشر غريزة فطرية لا يستغني عنها أحد في أي زمان ومكان.
التنافس في رمضان:
إنَّ شهر رمضان المبارك ميدان فسيح تظهر فيه روح المنافسة المشروعة بأجلى صورها وأشكالها فهو شهر فضيل أنزل الله ﷻ فيه القرآن ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ﴾ [البقرة: 185]، وهو نعمة عظيمة وفرصة ثمينة لمن أراد أن يطهر نفسه من الآثام والخطايا، فيسارع إلى فعل الخيرات بكل الوسائل والطرق المتاحة له، لأنَّ الله تعالى يضاعف فيه الأجر ويتجاوز فيه عن الذنوب أكثر من غيره من الشهور، وتصفد فيه مردة الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به» وهذه دلالة على عظم أجر الصائم.
لذلك كان هذا الشهر الحبيب ساحة مفتوحة للناس كافة، يتنافسون فيه ويجتهدون في قيام ليله وأداء صلاة التراويح وتلاوة القرآن وحفظه، والإنفاق في سبيل الله، لأن الرسول ﷺ كان جوادًا وكان أجود ما يكون في رمضان.
تنافس المرأة في رمضان:
المنافسة قائمة ودائمة في شهر رمضان المبارك للرجال والنساء، ولكننا نقف هنا على المنافسة بين النساء في هذا الشهر، ويمكن أن نقسم هذا التنافس إلى قسمين:
القسم الأول: المنافسة في الخيرات:
ونجسدها في أربع نقاط:
- التنافس في حفظ القرآن: إن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن فرصة؛ لأن تسارع فيه المرأة إلى حفظ كتاب ربها، وتنافس أخواتها وقريباتها وزميلاتها في ذلك، لأنه عمل مشروع، وتنافس محمود، لقول رسولنا الأمين ﷺ: «لا حسد إلَّا في اثنتين: رجل آتاه الله عَزَّوَجَلَّ القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه في الحق آناء الليل وآناء النهار». وهذه المنافسة في حفظ كتاب الله تشجع الأخريات على أن يبادرن إلى حفظه أيضًا، وبالتالي تدخل تلاوة القرآن كل بيت، ويا لها من ظاهرة خيّرة وجليلة. وجدير بالنساء بعد ذلك أن يستمررن في هذا التنافس بعد رمضان أيضًا ليبقى القلب معلقًا بالله وذاكرًا له.
- التنافس في أداء صلاة التراويح: صلاة التراويح نعمة من الله ﷻ على عباده في هذا الشهر الفضيل، وشعار مميز له، فلا يتذكر الإنسان رمضان إلا ويتذكر معه صلاة التراويح، وهي عبادة تخلق مناخًا روحانيًّا، جدير بالمرأة أن تستغله وتسارع فيه إلى أدائها بأكمل وجه، وتسابق الأخريات في الذهاب إلى المسجد، ومحاولة التعارف مع اللواتي أتين للمسجد لأداء هذه الشعيرة ودعوتهن إلى بيتها، وإكرامهن والمذاكرة معهن أمور الدين وأحوال المسلمين، فإنَّ هذا العمل يولد المحبة والإخاء بينهن، ويطرد الشيطان وهمزاته من صدورهن لتتحول هذه العلاقة إلى قوة عندهن يستطعن من خلالها مواجهة كل ما يحوم حولهن من مكائد ومصائد وشبهات من قبل المنافقين والعلمانيين.
- التنافس في الإنفاق في سبيل الله: وهو ميدان واسع، للتنافس والتسابق فيه، ومجالاته متعددة، فكل إنفاق تبتغي به المرأة المسلمة وجه الله فهو في سبيل الله، وقد ذكر الله تعالى في كتابه الأصناف التي يصرف عليها المال، فقال جل ذكره: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، وهذا له أثر كبير على الأمة، لأنَّ الإنفاق يحقق أمورًا كثيرة تعود فائدتها على الناس في الدنيا والآخرة، من تطهير النفس من الشحِّ والبخل، ومن شأنه القضاء على الحسد والبغضاء بين الناس، وتقليل نسبة الفقراء، وغير ذلك مما يزيد من ترابط المجتمع وتكافله، ومسيرة أمتنا التاريخية حافلة بنماذج فريدة ضربت المثل الأعلى في الإنفاق في سبيل الله، فهذا هو عثمان بن عفان رضي اللَّهُ عَنْهُ يُعد جيش العسرة، فيدعو له النبي ﷺ فيقول: «اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه»، وذاك عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّهُ عَنْهُ جاء إلى النبي ﷺ بأربعة آلاف درهم، فقال يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها، فقال الرسول ﷺ: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»، وقد ورد في الصحيحين قوله ﷺ: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن».
- التنافس في التقليل من الكلام: بوصف أن رمضان شهر صوم عن الطعام والشراب فهو شهر صوم عن الكلام والأحاديث الآثمة، وهو فرصة لأن تعوِّد المرأة نفسها على الصمت والسكوت، وعدم التكلم إلا بما هو نافع ومفيد، وتجتهد وتنافس في ذلك بعدم الخوض في الغيبة والمهاترات الكلامية، والابتعاد عن الهمز واللمز، يقول ﷺ : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»، وحتى تخرج المرأة من مدرسة رمضان بشخصية إسلامية جديدة، وفكر إيماني نيِّر، وتستطيع بعد ذلك السيطرة على نفسها وهواها إذا جالست النساء، ثم إنها فرصة لتنقذ نفسها من عذاب الله، لا سيما أن معظم أهل النار النساء، فقد حذَّرنا النبي ﷺ من خطورة الكلام الذي لا يُلقي الإنسان له بالًا أو اهتمامًا، فقال: «إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب»، وقوله ﷺ: «وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلَّا حصائد ألسنتهم».
القسم الثاني: التنافس في فعل المعاصي والمنكرات:
هناك أصناف من النساء لا يعرفن عن رمضان إلَّا أنه شهر تنافس على معصية الله، سواء أدركن ذلك أو لم يدركن، فكل أفعالهن تدل على ذلك، ولا يخطر في بالهن استغلاله لطاعة الله ﷻ وعمل الخير فيه، ويمكن أن نذكر ثلاث صور لهذه المعصية في هذا الشهر الخيِّر، وهي:
- التنافس في الخروج إلى الأسواق: وقد صارت مسألة خروج النساء إلى الأسواق ليلًا في رمضان ظاهرة شبه عامة، لدى كثير من الأسر المسلمة فتخرج المرأة كل يوم بزينتها وبلباس غير محتشم وربما تتعطر أحيانًا، وتتجه إلى الأسواق والمراكز التجارية لمعرفة آخر ما ظهر من الموضات والأزياء، أو لحجة الترويح عن نفسها، وقد تناست أن الأسواق مراتع للشياطين لا يجوز الخروج إليها إلا لحاجة، فضلًا على أن المرأة بخروجها إلى الأسواق تزيد من حجم المعاصي في المجتمع فهي تدفع الشباب أيضًا لارتيادها، فتبدأ المعاكسات والملاحقات هنا وهناك، وما تنجم عنها من مشكلات اجتماعية خطيرة، وكان جدير بها أن تستغل هذه الليالي المباركة بإحيائها في طاعة الله وقيام ودعاء وقراءة للقرآن والتوبة إلى الله ﷻ، وكان الأولى لها بدل أن تصرف أموالها في الموضة والأزياء لتنافس زميلاتها في ذوقها في اختيار اللبس الأنيق، والمكياج الأجود، أن تنفق جزءًا من هذه الأموال في وجوه الخير المختلفة.
- التنافس في العكوف على الفضائيات: وهناك صنف آخر من النساء ربما لا يخرجن كثيرًا إلى الأسواق في شهر رمضان المبارك، لكنهن يقضين معظم أوقات الليالي الرمضانية في متابعة القنوات الفضائية المختلفة، دون مبالاة بما يعرض فيها من الأفلام الخليعة والأغاني الهابطة والرقص الماجن، فتعرض النساء بملابس خاوية من الآداب والأخلاق، فتهيج الغرائز الجنسية التي تهوي بالنفوس وترديها إلى مستنقعات الرذيلة والفاحشة. ثم إنَّ هذه القنوات صارت معينًا تنهل منه كثير من النساء فيأخذن منها ثقافتهن وأفكارهن، وعاداتهن، حتى لا تجد منهن إلا القليل يعرفن عن الصحابيات وأسمائهن وبطولاتهن في التاريخ. أما إذا سئلت إحداهن عن ملكة جمال بلد ما، أو اسم ممثل أو مغنية، لسارعت لسرد سيرتها الذاتية كاملة، وربما تخبرك بما تحبه من الطعام وما تكرهه، جاهلة عمّا يحيك لها الأعداء عبر هذه القنوات، لإيقاعها في شراك الشيطان ونزع ما فيها من دين وأخلاق؛ لذا كان أولى بهذا الصنف من النساء أن يعكفن على طاعة الله وذكره في هذا الشهر الرحيم المبارك، ويرجعن فيه إلى الله ﷻ ليسد الطريق على المغرضين والمنافقين من النيل منهن.
- التنافس في الإسراف في طهي الطعام: وكأن من مستلزمات هذا الشهر المبارك، الطبخ والطهي لمختلف أصناف الطعام والمأكولات، والإسراف فيه، حيث توجد بعض النساء يتنافسن في طبخ الأطعمة المتنوعة، وصنع الحلويات المشكلة وغيرها، فلا يكون الفطور إلا على سفرة ممتدة طويلة، وعليها ما لذ وطاب من أنواع الأطعمة والأشربة، وبكميات هائلة، وكذلك الحال بالنسبة للسحور، ولا يؤكل منها إلا اليسير ثم يُرمى المتبقي في حاوية النفايات، فترهق بذلك نفسها بالتعب والنصب الذي لا داعي له، وترهق زوجها بالمصاريف الزائدة والإسراف المحرم، كل ذلك من أجل أن تقول لمن حولها إنها وضعت على السفرة كذا وكذا، وتتباهى بما طبخت وصنعت من المأكولات والمشروبات، وهي ترتكب بذلك إثمًا كبيرًا في إسرافها هذا، لأنه يدل على عدم تقدير النعمة وشكرها، بالرغم من أنه توجد في الطرف الآخر عوائل فقيرة بأمس الحاجة إلى جزء يسير من هذا الطعام يخفف من مرارة الجوع لديها.
وأخيـرًا:
فإنَّ المرأة المسلمة العاقلة والموفقة، هي التي عرفت كيف تستغل شهر رمضان المبارك بقيام ليله وقراءة كتاب الله عَزَّوَجَلَّ فيه، والإكثار من النفقات والصدقات في سبيل الله، واستطاعت أن تراجع صفحات حياتها، فأكثرت من الجوانب الإيجابية فيها وسدت الثغرات السلبية فيها، وجعلت قدوتها وأسوتها في ذلك كله خديجة وعائشة وفاطمة وأسماء رضي الله عنهن جميعًا، اللاتي سطرن التاريخ بمداد من الذهب بما اتصفن به من تمسك وتفقه فيه، بالإضافة إلى بطولاتها الخالدة في مشاركتهن في الغزوات والمعارك.

نصرة الأنبياء جميعًا من نصرته عليه الصلاة والسلام
عندما يهب المسلم لنصرة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يهب لنصرة عموم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأننا...

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...