
مدخل:
جبلت النفس على حبِّ الراحة والاستجمام بين حين وآخر، حين تتراكم عليها المسؤوليات والضغوطات، لاسيما في هذا العصر الذي تعددت فيه أسباب العناء النفسي والجسدي، فكان لا بد من مخرج للتخفيف من وطأة هذه الضغوطات والمسؤوليات، حتى يتجدد نشاط الإنسان ويبدأ من جديد نحو البناء والإبداع، فأباح الله سبحانه وتعالى للإنسان بعض هذه المنفسات والمخارج، ومن بينها السفر والسياحة في الأرض ضمن الضوابط الشرعية والتعاليم الإسلامية.
وقد تعارف الناس وتعودوا أن تكون أسفارهم ورحلاتهم السياحية إلى خارج أوطانهم في فترات الإجازة الدراسية، مثل فصل الصيف بالنسبة لهذه البلاد «المملكة العربية السعودية»، حيث يبدأ كثير من العائلات السفر إلى خارج بلادهم للاستمتاع والترفيه في بلاد أخرى،
وفيما يلي بعض المعالم المهمة التي تتعلق بهذه الأسفار:
السفر مذكور في كتاب الله ﷻ
ورد ذكر السفر في الأرض والاغتراب عن الأوطان والديار في كتاب الله تعالى: كما جاء في قوله جل وعلا: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل: 20]، من أجل العمل وطلب الرزق.
وكذلك جاء ذكر الأسفار بالهجرة من أجل الحفاظ على الدين ونشره في الأمصار، ورتَّب الله تعالى على ذلك مثوبة عظيمة في الدنيا والآخرة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [النساء: 100].
وقوله ﷻ: ﴿وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ﴾ [الحج: 58].
وقوله ﷻ: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8].
حاجة الإنسان إلى السياحة والسفر:
ذكر الإمام الشافعي (رحمه الله) بعض فوائد السفر وأسبابه في هذين البيتين الآتيين:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب صحبة وماجد
إلَّا أنَّ هناك مجموعة من الأسباب الأخرى -إضافة إلى ما ذكره الشافعي (رحمه الله )- التي تدفع الإنسان للخروج من بلده والتغرب عنه، ويمكن إجمال هذه المسوغات جميعًا في النقاط الآتية:
- الترفيه عن النفس من أعباء العمل والمسؤوليات الكثيرة، لا سيما في هذا العصر الذي ازدادت فيه الضغوطات على الإنسان من كل جانب، النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وغيره، فكانت الحاجة ماسة إلى تغيير الأجواء والسفر والخروج إلى أماكن أخرى.
- التعرف على الشعوب والأجناس الأخرى، والاطلاع على أحوالهم وثقافاتهم والاستفادة منهم عبر السفر إليهم والتواصل معهم، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
- السفر من أجل المعيشة وكسب الرزق، وهو أكثر الأنواع المنتشرة في العالم اليوم، فلا يخلو بلد أو بقعة من الأرض إلَّا وفيها من مختلف الأجناس والأعراق يعملون ويجهدون من أجل الكسب والعيش الرغيد، وهي سُنَّةٌ كونيَّةٌ قديمةٌ كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
- اكتساب العلوم والمعارف في جميع المجالات، حيث إنَّ بعض الشعوب أو بعض البلاد تتفوق على غيرها في مجالاتٍ علميَّةٍ معينةٍ، يمكن الاستفادة منها من خلال السفر إلى بلادهم، والحصول على تلك العلوم وإحضارها إلى بلاد المسلمين، كالاطلاع على أحداث التقنيات في عالم الاتصالات، أو آخر الاكتشافات الطيبة، أو الفلكية أو الجيولوجية، وغيرها، فبالأسفار والرحلات تستفيد الشعوب من بعضها علميًّا ومعرفيًّا، وقد حدثت أكبر التحولات العلميَّة في العالم عبر الأسفار والرحلات والاختلاط مع الشعوب الأخرى، فقد استفاد الغرب كثيرًا مما عند المسلمين من العلوم التطبيقية والتجريبية وكان لحركة الترجمة في الأندلس الأثر الكبير في هذا الحدث العلمي الكبير.
- الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونشر الإسلام بين الشعوب، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أوَّل من اتبعوا هذه السبيل، حيث خرج كثيرون منهم بعد الفتوحات الإسلامية وتغربوا عن أهلهم وديارهم لنشر الإسلام وتعليم الشعوب أمور العقيدة والعبادات والأخلاق، وتوفي معظمهم في بلاد الغربة، في مختلف الأمصار في سبيل الله سبحانه وتعالى، كما أنَّ كثيرًا من شعوب العالم دخلوا الإسلام في العصور المتأخرة عن طريق المسلمين المسافرين إليهم من خلال التجار والعلماء والدعاة، كما حدث في إندونيسيا وماليزيا وبورما وفلبين والصين وغيرها.
ثالثًا: ضوابط السياحة والسفر:
كما أباح الشرع السفر والسياحة، وضع لذلك بعض الضوابط التي لا بد من الالتزام بها، ومن أهمِّها:
- أن يكون سفر السياحة للترفيه والاستجمام إلى بلاد المسلمين، وليس إلى بلاد الشرك والكفر؛ لأنَّ النبي ﷺ نهى عن الإقامة بين ظهراني المشركين بدون مسوغ شرعي فقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» (رواه أبوداود والترمذي)
- الالتزام بشرع الله تعالى في الأمر والنهي، بحيث يحافظ المسافر أو السائح على الفروض وأدائها في أوقاتها، وكذلك المحافظة على حدود الله تعالى وعدم تجاوزها، لا سيما أنَّ السفر يكون إلى بلاد غربية لا يعرف فيها أحدًا، ومجال المعصية مفتوح لكل من أرادها، لذلك كان من أهمِّ ضوابط السياحة والسفر أن يراقب الإنسان الله ﷻ في نفسه وأعماله، لأنَّ غياب مراقبة الناس والأهل لا يعني غياب مراقبة الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى مطلع على الإنسان وسلوكه أينما حلَّ وارتحل، يقول الله تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
- المحافظة على المال من خلال صرفه وإنفاقه على نفسه وأهله بصورة معقولة، بحيث لا يتجاوز حدَّ الإسراف والإهدار، حتى لا يقع صاحبه في المحظور لقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
- ألا يتجاوز وقت السفر الحدَّ المعتاد إلا للضرورة، بحيث يضع المسافر أو السائح قبل سفره مدة زمنية محددة، ليروِّح عن نفسه وعن أهله وأولاده، ويحاول ألا يتعداها، لأنَّ الوقت من النعم العظيمة التي تحتاج إلى تنظيمها واستغلالها وعدم الإفراط فيها، قال رسول الله ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(رواه البخاري)، ثمَّ إنَّ الإفراط في الوقت والزمن في أثناء السياحة والسفر وقضاء إجازات طويلة من غير عذر، يولِّد عند صاحبه نوعًا من الكسل والركون إلى الراحة، بل إنه يؤثر سلبًا على العمل والإنتاجية حين العودة إلى الوطن الأم.
- مراقبة الأبناء والبنات في أثناء السفر ومتابعتهم، وعدم تركهم يخرجون وحدهم، حتى لا يقعوا في شراك المفسدين الذين يتصيدون الغرباء دائمًا، لا سيما في مواسم السياحة، وقد حدثت حوادث أليمة لكثير من الأسر، حين أهملوا أولادهم وأعطوهم الحرية المطلقة في الحركة والتنقل.
خلاصة القول في السياحة:
على المسافر أو السائح أن ينظر ببصيرته الشرعية إلى أحوال السفر وظروفه، فإنْ كانت هناك مصلحة راجحة مثل اكتساب العلوم والمعارف، أو الترفيه المعقول الذي يجدد النشاط ويساعد في تنمية المهارات، والمدارك وزيادة الإنتاج، أو مثل التداوي والعلاج، أو الدعوة إلى الله ﷻ. وغيرها من المنافع، بشرط ألا تتغلب المفاسد على هذه المصالح، فلا بأس بالسفر والسياحة والاستمتاع بما أباحه الله ﷻ. أمَّا إذا تحققت هذه المصالح وجرت معها مفاسد كبرى كالشرك بالله ﷻ أو الزنا أو شرب الخمور، فالأولى ترك هذه السياحة والبقاء في بلده وبين أهله، امتثالًا للقاعدة الشرعية: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح».
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نصرة الأنبياء جميعًا من نصرته عليه الصلاة والسلام
عندما يهب المسلم لنصرة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يهب لنصرة عموم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأننا...

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...