
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ منزلة العلم والعلماء في الإسلام منزلة رفيعة، لا تكاد تدانيها منزلة بعد النبوة؛ فإنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم حملة مشاعل الهُدى للناس بعدهم، وفضلهم على الخلق ظاهر؛ وحاجة الناس إليهم لا تقل عن حاجتهم إلى الماء والغذاء، فلئن كان في الماء والغذاء حياة أبدانهم، فإنَّ حياة قلوبهم بالعلم الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقودهم إلى سعادتَيِ الدنيا والآخرة. ولهذه المنزلة العالية للعلم والعلماء كان طلب العلم فريضة كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
مكانة العلم والعلماء في القرآن الكريم:
وقد جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في فضل العلم والعلماء، ووصفهم بأجل الصفات، من تقوى الله وخشيته، ورفعة درجاتهم، وقرن شهادتهم بشهادة الله تعالى وملائكته، ونُصحهم للناس كافة، إلى غير ذلك من الصفات الكريمة، كما يلي بيان طرف منها:
إيمانهم وتوحيدهم للـه جل وعلا:
إنَّ العلماء الذين يقودهم علمهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده وحسن عبادته هم أحقُّ الناس بهذا الوصف الكريم «أهل العلم»، وما لم يصل العلم بالعالم إلى الإيمان والتوحيد فليس علمًا نافعًا له، وإن قدَّر الله جل شأنه انتفاع الناس بشيء منه بحكمته.
ومن ثمَّ فإنَّ أهل العلم والإيمان، الذين جمعوا بينهما، وعملوا بهما، استحقوا من الشرف والمنزلة ما لا يكاد يوصف به غيرهم، فقد قرن الله تعالى شهادتهم بالتوحيد بشهادته جل وعلا، فقال سبحانه: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18]. قال ابن كثير رضي الله عنه في تفسيره هذه الآية الكريمة: «قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته… وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام».
خشيتهم لله تعالى:
العلماء هم أكثر الناس خشية لله تعالى، قال الله جل وعلا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر:28]. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله».
فالعلماء بما يحملون من علم، ومعرفة بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وآياته في الخلق، وقدرته وجلاله، يورثهم ذلك خشية الله تعالى، وكلما ازداد رسوخهم في العلم زادت معرفتهم بالمولى جل وعلا ومن ثم زادت خشيتهم له، ونصحهم لعباده.
رفعة درجاتهم:
قال تعالى في بيان رفعة درجات العلماء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]. وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولًى؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض قاص، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم عليه الصلاة والسلام قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين».
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
العلم يرفع بيتًا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشـرف
مكانة العلم والعلماء في السُّنة النبوية:
كما جاءت أحاديث كثيرة في السُّنة المطهرة في بيان درجة العلماء الرفيعة ومنزلتهم العظيمة، منها ما يلي:
الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والأربعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإنَّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وهو حديث عظيم جامع في هذا الباب، وفيه من بيان منزلة العلماء وتكريمهم في الإسلام ودرجتهم الرفيعة ما سنذكره:
- بيان أنَّ العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض من مخلوقات الله جل شأنه.
- بيان فضل العلم على نوافل العبادات كلها، فهو أفضل النوافل بعد الفرائض.
- بيان أنَّ العلماء هم حملة ميراث الأنبياء من العلم والهدى، وأنهم بعد الأنبياء هم أعظم الناس نفعًا للخلق ونصحًا لهم؛ بقيامهم بهذه الأمانة.
كما صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله جل شأنه وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلُّون على معلم الناس الخير».
وفي صحيح البخاري عن معاوية رضي الله عنه أنَّ رسول الله جل شأنه قال: «من يُرِدِ الله به خيرًا يفقهه في الدين».
وجاء في الأثر: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».
قصة عظيمة تبين أثر العلماء على الناس:
روى أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «إنَّ رجلًا قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا بين الأرضَيْنِ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو لها، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة».
وموضع الشاهد من هذه القصة العظيمة هو: «فدُلَّ على رجل عالم، فقال إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء».
ففي هذه القصة بيان للأثر العظيم للعلماء ذوي الفقه والبصيرة في دين الله تعالى على الناس، فهذا الرجل أدى به اليأس والقنوط إلى التمادي في إزهاق الأرواح؛ حتى أنقذه الله تعالى بهذا العالم الرباني الفقيه، الذي أرشده إلى التوبة، وأنه مهما أسرف على نفسه فبابها مفتوح، كما أرشده إلى ما يُعينه على ذلك من الصحبة الطيبة.
عزة العالم وعمله بعلمه:
إنَّ ما يحمله العالم من علم هو شرف عظيم يمنح العالم عزة وترفعًا عن الدنايا؛ فهو محل القدوة بين الناس، ومحط الأنظار.
وقد حفظ التاريخ من صور العزة الإيمانية للعلماء شيئًا كثيرًا، منها ما ذكره الإمام الذهبي رضي الله عنه تعالى في «سير أعلام النبلاء» في ترجمة العالم القاضي «على الجرجاني» حيث ذكر له أبياتًا رائعة في بيان عزة العالم، يقول فيها:
يقولون: لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلًا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس مَن داناهمُ هان عندهم ومَن لزمتهُ عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيَّرْتَه لي سُلَّما
وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل مَن في الأرض أرضاه
إذا قيل: هذا منهل قلت: قد أرى منعما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ولكنَّ نفس الحُر تحتمل الظَّما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم إذًا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولكن أذلوهُ فهان ودنسوا ولو عظموهُ في النفوس لعظما
محياه بالأطماع حتى تجهما
حقوق العلماء على الناس:
لا شكَّ أنَّ ما جاء في حق العلم وأهله في القرآن والسُّنة يؤكد أن لهم مكانة مَرعية، وحقوقًا واجبة، استحقوها بتفضيل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لهم بفضل ما يحملونه من خير للناس ونُصح لهم في معاشهم ومعادهم.
فحقُّ العلماء على سائر الناس هو التوقير والتبجيل، تجنب مسهم بإساءة أو أذًى، وفي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». ولهذا شدَّد العلماء النكير على من ينال من أهل العلم بأذًى، ولو بمجرد الكلام؛ لأنَّ انتقاص العلماء جناية على ما يحملونه من علم وليس على ذواتهم فحسب.
ومن أقوال العلماء في ذلك قول ابن عساكر رضي الله عنه: لحوم العلماء مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة، وما أطلق أحد لسانه في العلماء بالثلب إلا ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
أثر إهمال قيمة العلم في واقعنا:
إنَّ المتأمل البصير في واقع الناس المعاصر يرى الأثر البيِّن لبُعد الناس عن العلم، وعدم إنزال العلماء منزلتهم الحقيقية، فلم يعد لدى كثير منهم من ذلك سوى صور باهتة من التقدير السطحي، دون التقدير العملي الفعلي بالحرص على طلب العلم والتواصل مع العلماء.
أو صور أخرى من الجهل بمكانة العلماء وعدم معرفة أثرهم في إصلاح الدنيا والدين بما يحملون من فقه وبصيرة لمنهج المسلم المتكامل في الحياة. وما حصل وما يحصل من الفتن إلا بالبُعد عن العلم، والتلقي من مصادر مجهولة، وما ضل من ضل إلَّا بالتنقص من العلماء والسخرية منهم.
وإنَّ استعادة عز الأمة ومجدها وشرفها بين الأمم لا تتم إلا بعودة المكانة الحقيقية للعلماء في الواقع، وجعلهم المرجع الأساسيَّ في إصلاح شؤون الناس، وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...