home-icon
وصية للصحبة الصالحة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فلا شك أن الصحبة الصالحة من أكبر النعم على كل حال؛ في السفر والحضر، في الأفراح والأتراح، في البيت وفي السوق، في الصحة والمرض، والأهمية الكبرى لمن تصحبه طيلة حياتك وهي زوجتك، فاختيار الصحبة الصالحة من أكبر المهمات في حياة المسلم، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، كما في الحديث، وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث:

«على دين خليله» أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته «فلينظر» أي فليتأمل وليتدبر «من يخالل» من الـمخاللة وهي الـمصادقة والإخاء، فمن رضي دينه وخلقه خاللـه، ومن ليس كذلك تجنبه، فإن الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده. قال الغزالي: مجالسة الـحريص ومخالطته تحرك الـحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري.

من خلال الحديث المذكور وشرحه يتبين أهمية صلاح الأصدقاء والتزامهم الدين الإسلامي، والقرآن الكريم حثنا على أن نكون مع الصادقين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] يقول ابن السعدي (رضي الله عنه) في تفسير هذه الآية: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين قولهم صدق، وأعمالهم وأحوالهم لا تكون إلا صدقًا خاليةً من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة.

وهكذا تتضح أهمية الصحبة الصالحة وأن المرء على دين خليله، وأهمية أن يكون صديق المرء صادقًا في جميع أحواله وأعماله وأقواله؛ لأن الطبيعة تتأثر لا محالة بمن تخالطه، وقد أمر النبي ﷺ باختيار الصحبة الصالحة بتمثيل لطيف ففي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى (رضي الله عنه) عن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ الْـجَلِيسِ الصالِحِ وَالسوْءِ كَحَامِلِ الْـمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْـمِسْكِ إِما أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِما أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِما أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِما أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِما أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً».

قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: وفي الـحديث النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما. وقال النووي: وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والـمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. وفي عون المعبود: وفي الحديث إرشاد إلى الرغبة في صحبة الصلحاء والعلماء ومجالستهم فإنها تنفع في الدنيا والآخرة، وإلى اجتناب صحبة الأشرار والفساق فإنها تضر دينًا ودنيا.

هذا وقد فضل رسول الله ﷺ العزلة على الصحبة السيئة فقال ﷺ : «يأتي على الناس زمان تكون الغنم فيه خير مال الـمسلم يتبع بها شعف الجبال أو سعف الجبال في مواقع القطر يفر بدينه من الفتن».

قوله: «يأتي على الناس زمان خير مال الـمسلم الغنم» ولفظه هنا صريح في أن الـمراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان، وأما زمنه ﷺ فكان الـجهاد فيه مطلوبًا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول ﷺ غازيًا أن يخرجوا معه إلا من كان معذورا، وأما من بعده فيختلف ذلك باختلاف الأحوال، وذكر الخطابي في «كتاب العزلة» أن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق الـمسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك، والـمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لـما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن الـمهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب والله أعلم.
وينبغي أن تبحث فيمن تصاحبه عن خمس خصال، إن وجدتها فيه فصاحبه وإلا فالزم العزلة ولا تخالط إلا قدر الحاجة، وهي:

أن يكون صاحب دين، لأن من لا دين له لا يخشى الله، ومن لم يخش الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق به، عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، قال المباركفوري: قوله: «لا تصاحب إلا مؤمنًا» أي كاملًا مكملًا، أو الـمراد منه النهي عن مصاحبة الكفار والـمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالـمراد بالـمؤمن من جنس الـمؤمنين، قال الـخطابي: وإنما حذر ﷺ من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن الـمطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب.

أن يكون متبعًا لا مبتدعًا، لأن المبتدع يخاف من صحبته بسراية بدعته، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ : «الرجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ».

أن يكون ذا خلق حسن، والخلق الحسن لا بد من كونه فيمن يختار للصحبة، إذ رُب رجل صالح في نفسه قد يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه فينعدم الخير ويزداد في الشر.

أن يكون عاقلًا؛ لأن العقلَ رأس المال، لا خير في الرجل إذا كان قليل العقل، والأحمق قد يريد أن ينفع صاحبه فيضره، وقد كان رسول الله ﷺ يحرص على أن يقربه العقلاء أولو الأحلام والنُّهى وحتى في الصلاة فيقول: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلامِ وَالنُّهَى ثُم الذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلاثًا، وَإِياكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ».

أن يكون سخيًّا غير بخيل، وقد أثنى رسول الله ﷺ على أبي بكر (رضي الله عنه) كثيرًالأجل هذا الأمر فقال: «إِن أَمَنَّ الناسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمتِي لاتخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوةُ الإِسْلامِ وَمَوَدتُهُ، لا يَبْقَيَن فِي الْـمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ».

قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقليك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله ﷻ، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.

هذا وصلَّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.