
في كل موسم من مواسم الحج تتجدد المعاني والدروس العظيمة لتجدد نشاط النفوس، فتُحيي ما ندرس من تلك المعاني السامية، وتزيل ما ران من الغبش على المفاهيم السليمة، وما اندثر منها، فتعود النفوس إلى منهجيتها لتواصل مسيرة البناء والعطاء.
وهنا أذكر شيئًا من وحي هذا الحج في نقاط متفرقة لعلَّها تنضم في باب الذكرى فتنفع المؤمنين.
تعبُّد واستسلام:
سأل سائل عن العلَّة لهذه الأعمال في الحج من الطواف والسعي والوقوف والرمي والمبيت، وهل يمكن أن تتكرر في العام؟ أو أن تكون في أماكن أخرى ونحو ذلك؟.
وقبل الجواب المباشر قال المجيب: لو تأمَّل الحاج في أعمال الحج كلِّها لوجدها كذلك، أعمالًا بدنية تتضمن أذكارًا ودعوات يرددها الحاج في جميع هذه المشاعر، وهو يؤدي تلك المناسك. ثم قال له: إن القاعدة في العبادات كلِّها من الصلاة والصيام والحج هي كما يعبِّر الفقهاء «توقيفية»، بمعنى أنها تؤدى عبادة لله سبحانه وتعالى على حد قوله ﷻ: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فلا تُدرَك علَّتها، لكن يُتَلَمَّسُ لها بعض الحِكم والآثار العظيمة، ومنها: إحياء ذكر الله سبحانه الذي هو مقصود مهم في العبادات، قال ﷻ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وفي الحج يقول ﷺ: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»، وهكذا نجد ذكر الله بعد أداء المناسك وبخاصة بعد الوقوف بعرفة هو أعظم المناسك، قال ﷻ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199].
وعليه فلعل أهم معلم لنا في حياتنا كلها ونستوحيه من الحج ونحن نقوم بتلك العبادات هو إقامة ذكر الله، ذكر الله المطلق، وذكر الله المقيد بزمان، أو حال، أو مكان، ثم نترجم هذا الذكر إلى حياتنا العملية كلها. فإقامة هذا المعلم هو أن تعيش النفس مع الله تعالى في جميع الأحوال والظروف، والأزمنة والأمكنة، لا في الحج فحسب، ثم يُنسى أو يُتناسى.
لا جدال في الحج:
مفهوم من أهم المفاهيم في الحج، جاء النص عليه في كتاب الله ﷻ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]. ورتب عليه الشرع مغفرة الذنوب، جاء في الحديث الصحيح: «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وأحسب أنه مفهوم يعرفه كثيرون نظريًّا لكن تطبيقه العملي يحتاج إلى حَزم وعَزم، وفَهْم سليم، وإدراك قويم.
تعال -أخي القارئ- معي هذا المشهد:
أحد الحجاج الشباب، مفتول العضلات –هكذا يقول من يروي المشهد– أقعد أباه -وهو شيخ كبير- في (عربة) وأتى به إلى رمي الجمرات ظهر يوم 12/12 هذا العام، حتى أوصله إلى الحوض ليرمي، والأب يرتعد من كِبَر سنِّه، وفي الوقت نفسه مع تزاحم الحجاج آذت العربة عددًا منهم، في ظن هذا الحاج الشاب أنه بر بأبيه ليوصله إلى هذا المكان بهذه الطريقة. خاطبه صاحبنا ذاكرًا له أنَّ هذه العربة مؤذية للآخرين، وتسببت في إيذائهم، فرد الشاب ببدهية سريعة: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (هيا ابتعد). ا.هـ. وفي تأمل هذا المشهد نجد ما يلي:
- استخدام هذا المصطلح في غير مفهومه الصحيح، وهذا أدَّى إلى التباس المفاهيم وخلطها فأوقع في خلط العمل.
- لم يستحضر مع هذا الفعل أهمية الأخلاق وحسن التعامل في مثل هذه المواقف التي تستدعيها وبخاصة من مثله الذي حمَّل نفسه وأباه حملًا لم يكلف به فاستدل بالآية في غير محلها.
- إعطاء الرد بصورة غير أخلاقية حيث جاء الرد وهو في حالة من الشدِّ النفسي.
- كم تسبب هذا الفعل الذي ظن صاحبه برًّا بأبيه في إيذاء الآخرين ولم يدرك أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ولم يستحضر قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾؟! بل كم آذى أباه ونفسه بهذا التصرف؟
- غاب عن ذهن هذا الشاب سعة الشريعة ومرونتها التي أجازت التوكيل في الرمي لمثل أبيه ولا ينقص من أجره شيء.
- أليس هذا يوجب علينا فقه الحج في وضعه السليم وبخاصة إذا أردنا الجمع بين مجموعة أعمال من الطاعات والقربات؟ إن موقف هذا الشاب يذكرنا بضرورة فقه الأولويات حتى في عمل الأعمال الصالحة، ففيها واجب وأوجب، وفيها واجب ومستحب، وفيها ما واجبه مضيَّق وما واجبه موسَّع، وهذا من أعظم فقه الموفقين ليجمعوا أعظم الحسنات بأقلِّ الأعمال.
وهذا من فقه الحج في الحج وفي غيره.
تشدد وتساهل:
جلس حاجَّان يتحدثان فيما بينهما، قال أحدهما: إن بعض العلماء يشدد في الحج كثيرًا، فيوجب أشياء، ويمنع أشياء، ومثَّل لذلك بوجوب الحجاب على المرأة وليس هذا واجبًا، ويوجبون طواف الوداع وهو غير واجب ولا يجيزون التوكيل في الرمي، وغيرها من المسائل.
ليس المراد هنا ترجيح قول على آخر، وإنما التأمل في الحوار ذاته، ولعل هذا مما يوحي به الحج كل عام، لتظهر قضية التشدد والتساهل، ومن التأمل: تتنوع أحكام الحجاج حول التشدد في مسألة (ما) أو التساهل فيها غالبًا ما يكون مما يمرُّ على الحاج من الشدِّة والتساهل، وهذا بلا شك ليس مقياسًا شرعيًّا لقضية من القضايا، وهذا المقياس يلغي المقياس الصحيح، وهو أن الحجَّ عبادة من العبادات، وركن من أركان الإسلام لا توجب فيه عبادة، أو تحظر إلَّا بناءً على الدليل الشرعي من الكتاب والسُّنة، ومنها عمل الرسول ﷺ القائل: «خذوا عني مناسككم». فالأصل في الحج هو في هذا الاستدلال، والعمل بما جاء عنه ﷺ وهذا يلقي مسؤولية كبيرة على العلماء وطلبة العلم لتوضيح هذا الأصل العظيم.
ومن التأمل: خطورة إعطاء الإنسان نفسه الحق للحكم على قضايا التعبد في الحج أو غيره بأن هذا تساهل، وهذا تشدد دون علم، وإنما بناء على رؤية خاصة أو نظرة قاصرة، وهذا من شأنه –للأسف– أن يخفف تعظيم شعائر الله في النفوس وهذا خطر في حدِّ ذاته.
ومن هنا يتوجب على المسلم أن يحيي الشعائر التعبدية في نفسه، ويعظم شعائر الله، وقد قال سبحانه وتعالى في الحج: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
من الخطأ والخلط تقسيم الشريعة إلى أحكام متشددة وأحكام متساهلة، فالحكم بالتساهل أو الشدة نسبي، لا ينبغي هنا أن يظهر؛ لأن من قواعد الشريعة العامة: «الضرورات تبيح المحظورات»، و«لا ضرر ولا ضرار»، و«المشقة تجلب التيسير»، فإذا بلغت الشدة مبلغها تتسع أحكام الشريعة لأفعال المكلفين.
والقاعدة هنا: «إذا ضاق الأمر اتسع»، بمعنى: إذا وجد الضيق في الفعل اتسع الحكم. والحمد لله على التيسير.
وهذا يتوجب الفهم حول هذه القضية «التشدد والتساهل» حتى لا نعيش في مفاهيم خطأ أو نستطرد في حوارات لا جدوى منها سوى تشويش الأذهان، والتلبيس على العلم، فالدين محكم، وأهل الحكم في المسائل هم العلماء العارفون، فَلْنَعِ هذا الأصل العظيم.
هذه المسألة ليس عليها دليل:
جرى نقاش في منًى بين مجموعة من طلبة العلم حول مسألة: «الموالاة في الطواف» و«الموالاة بين الطواف والسعي». وكان نقاشًا علميًّا مفيدًا أفاد منه الحاضرون، وهذا من الجدل العلميِّ المحمود والمفيد، وهو معلم من معالم طلبة العلم المستغلين لأوقاتهم. وداعي الذكر هنا أن أحدهم قال عن مسألة: «الموالاة»: هذه المسألة لا دليل عليها. وقد أوقف هذا القول أحدهم معلقًا عليه: هذه المقولة يقولها بعض طلبة العلم في كثير من المسائل، وهي منقولة تحمل في طياتها عدة أمور:
- أنَّ القائل لمثل هذه المقولة يحمل تجهيلًا لمن يخالفه الرأي، فالقول بالموالاة مثلًا قال به جملة من أهل العلم، والسؤال البديهي: هل هؤلاء العلماء قالوا بهذه المسألة دون دليل؟!
- هذه المقولة تولد جرأة على المخالفة في الأحكام العملية لمجرد قناعات القائل دون أن ينظر في علمه، وفي استيعابه للأدلة، وللأقوال ومستنداتها، وهذه الجرأة لها مخاطرها على القائل نفسه وعلى من يتلقى عنه من طلبته؛ فهي مخالفة منهجية لمنهج التلقي، ورحم الله الشيخ محمد بن عثيمين عندما قيل له –وهذا القول في آخر حجة له– لك رأي في عدم إيجاب الدم لمن ترك واجبًا من واجبات الحج؟ قال: نعم، فقيل له: ولم لا تقول بذلك؟ قال: سبحان الله، وهل أقول بقول يخالف ما عليه الأمة من عهد صحابة رسول الله ﷺ ورضي عنهم، حسبي أن أقول: يقول الفقهاء: كذا وكذا.
- وهذه الجرأة تولد التسرع في الأحكام، وهذا التسرع لا خلاف في أنه منهج مذموم، ونهج الشرع يخالف منهج التورع عن الفتوى، والقول على الله تعالى، وهذا لا يحتاج إلى تعليق.
- لعل من الأحسن لمن يقول بهذه المقالة أن يبدلها بأن يذكر الدليل الذي استدل به الآخرون ثم يبين عدم قناعته بهذا الاستدلال، لا أن يجهلهم بنفي الدليل مطلقًا.
ومن هنا: أوجه الدعوة لكل طالب علم –ذكرًا كان أو أنثى– بتذكر المنهج السليم للتعامل مع الفتوى، والرفق بالنفس في هذه القضية، وحزمها والإمساك بخطامها، وعدم الخلط بين النقاش العلمي وبين الفتوى، وهذه مسألة تحتاج إلى بسط، لعله يتيسر لها مقام آخر، وإنما المراد هنا وحي الحج.
التويتر والفتوى:
ترك أحدهم طواف الوداع، فلما سئل عن ذلك قال: إن الشيخ فلانًا ذكر في صفحته في «التويتر» أن طواف الوداع يسقط مع العجز، وتداول عدد من حجاج حملة من الحملات هذه الفتوى، عن طريق رسالة الجوال في الحملة، وكان بعضهم قد بدأ بالطواف، وبعضهم في الشوط الرابع فخرجوا من الطواف بحجة هذه الفتوى. لست هنا محققًا لهذه الفتوى بالتأييد أو المعارضة لكن التأمل في استخدام هذه التقنية في الفتاوى الدقيقة، ومن التأمل:
- لا يشك أحد في ضرورة استخدام هذه التقنية في التوجيه والإرشاد وتصحيح المفاهيم، لكن محل التأمل هو استخدامها في الأحكام الدقيقة التي قد تحدث لبسًا وخلطًا.
- ويقال هنا عن التسرع في إطلاق الأحكام ما قيل في الفقرة السابقة؛ لأن هذا الإطلاق بهذا الحكم الاستثنائي الذي يقال في زحام الحج يوقع في إرباكات كثيرة.
- لا يشك القائل بهذا القول أن هذا الحكم استثنائي، وإلا فالأصل طواف الوداع للحاج.
- ولا شكَّ أيضًا أنَّ هذا القول يوقع جدلًا ما كان ليحدث لولا هذا الإطلاق، ولا أقصد بالجدل النقاش العلمي، وإنما الدخول في التأييد والمعارضة والتشديد والتساهل.
- أجزم بأن القائل بهذا القول لم يناقش غيره، فكما تتدخل دقة الأحكام تتدخل هنا السياسة الشرعية، وهذا يحتاج إلى فقه جماعي لا ينكره مثل هذا القائل، بل قد يدعو إليه.
وعليه: فهذه التقنية لها حدودها ومجالها الذي يجب أن نحسن التعامل معه. وهل للأحكام الدقيقة محل فيها، محل تأمل؟ أرجو أن يكون كذلك. تلك من وحي الحج وخطرات أرى أنها محل تأمل، نفع الله بها وسدد الخطى.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...