من فقه البناء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فمن سنن الله تعالى أن جعل هذا الكون متحركًا باستمرار غير متوقف ولا متقطع ليصل إلى غاية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

وعند التأمل في جزئيات من هذا الكون الفسيح نجد أن كل مخلوق منها في حركة دائبة ودائمة فهذه الشمس بعظمتها، والقمر بروعته، والكواكب المتنوعة والمتناثرة في السماء، وغيرها من المخلوقات العظيمة كلها في حركة لا تستقر.

ومن هنا جاء بناء هذا الكون، والاستفادة مما أودع الله ﷻ فيه من المخلوقات على الحركة المستمرة.

والإنسان وهو المستثمر لهذا الكون، وقد سخر له ما لا يمكن أن يستثمره الاستثمار الحقيقي إلا بحركة عقلية وبدنية مستمرة ومتكاملة.

ولذا جاء في القرآن الكريم آيات عظيمة تدعو لهذا التفكر في الكون، وهي دعوة تأملية ليستفيد الإنسان من هذا الكون المسخر له.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۞ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۞ وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ۞ وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17-20].

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ ۞ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰمًۭا وَقُعُودًۭا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًۭا سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران: 190- 191]. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164].

وغيرها من الآيات التي تؤكد أن الاستفادة الحقة لا تكون إلا بالحركة الذهنية لاستخراج ما يستفيد منه المسلم.

ولو تأملنا في العبارات التي أُمر المسلم بها وبخاصة أركان الإسلام العملية لوجدناها مبنية على هذه الحركة، فالصلاة كلها حركة وتأمل ودعاء ومناجاة وقراءة وذكر، فُرض فيها الخشوع والخضوع، والزكاة حركة مالية لتطهيره وتطهير نفسية المزكي، والصيام حركة في التعامل مع الإرادة البشرية فتنقاد لتـستسلم لأمر الخالق جل وعلا بكل طواعية وانقياد، والحج كله حركة، وهو حركة فردية ضمن نظام جماعي لا يتخلف، أي روعة أكبر من تلك الروعة للمتأمل يجد فيها بغيته وراحته في الدنيا والآخرة، وأي حركة أعظم من تلك الحركة التي تتسق مع حركة الكون كله.
ومن هنا جاء في الإسلام مبدأ كبير يتماشى مع هذه الدعوة العظيمة ليعمر الكون كله ويُستفاد أيما فائدة من كل جزئيات الكون وقدرات الإنسان. ولعل من الأسرار العظيمة في تحول المجتمع العربي البسيط في ما قبل النبوة إلى عمار للكون، عباد لخالق الكون، ينشرون الرحمة والعدل والقسط والمحبة في أرجاء المعمورة كلها.

هو هذا المبدأ، مبدأ: «المنافسة»، «المسابقة»، «المبادرة»، «المسارعة» في «الخير»، «النفع» على إطلاقها نحو حركة إلى خيرية النفس والأسرة والمجتمع والأمة.

مبدأ كرر ذكره في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة بأساليب وصيغ كثيرة مما يكرس مفهومه ويغرسه في النفوس، ولا شك أن ضده «الكسل»، «الرضا بالدون»، «الاكتفاء بأقل القليل، إلخ» مما يميت علينا ديننا، ويؤخرنا من بين الأمم ونبقى في ذيل القائمة.

في آية كريمة يقول تعالى: ﴿وَسَارِعُوٓا۟ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، وقال سبحانه لـما ذكر نعيم الآخرة: ﴿خِتَـٰمُهُۥ مِسْكٌۭ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَـٰفِسُونَ﴾ [المطففين: 26]، وقال سبحانه في أكثر من آية: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148]، وامتدح الله تعالى أنبياءه بقوله: ﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾، أما الأحاديث النبوية فأكثر من أن تحصى، تؤكد على مبدأ المبادرة والمسابقة في مثل قوله ﷺ: «بادروا بالأعمال ستًّا» الحديث، وفي لفظ الخيرية جاء قوله ﷺ:

«خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وقوله ﷺ: «خيركم خيركم لأهله»، وقال ﷺ: «خير الناس أنفعهم للناس». هذه وغيرها أحاديث كثيرة شاهدنا فيها التأكيد الكبـيـر على مبدأ المنافسة في كل ما هو خير ونافع في الدنيا والآخرة لتتم حركة الإنسان الخيرية مع حركة الكون التي تتم لعمارته.

هذا المبدأ: تمثله النبي ﷺ في حياته العملية فأينما وجهت طرفك في أجزاء سيرته ﷺوجدته ﷺ ماثلًا أمامك، قدوة في هذا المبدأ العظيم في مجالات العبادات، أو التعامل، أو الأخلاق، أو العمل، أو البيع والشراء، أو الجهاد، أو التعامل البيني، أو مع الآخرين أيًّا كانوا.

وأضرب لذلك أمثلة:

  1. في تعامله مع الناس يثني عليه الله سبحانه وتعالى ويشهد له من فوق سبع سنوات: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، نتأمل: ﴿ ﮝ ﮞ﴾، يتحرك به ﷺ مع الآخرين.
  2. رسول الله ﷺ غفر له ما تقدم له من ذنبه وما تأخر ومع ذلك يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، لم يجلس أو يتوانَ، أو يتواكل، أو يتباطأ أو يفتر في تعامله مع الله سبحانه وتعالى، فهو في حركة عبادية مستمرة.
  3. في البيت شعاره: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، هذه الخيرية تمثلت في كل ما يُدخل السرور إلى أسرته، مع رقي في التعامل مع العوارض والمشكلات، فهو في حركة خيرية نحو بيته.

هذه وأمثالها تغرس هذا المبدأ العظيم في نفوس أمته ليسارعوا بالاقتداء به، ومن ثم ينافسوا الأمم على الصدارة، وحق لهم ذلك، فجيل الصحابة عندما كانوا كذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه وفي قصة الفقراء الذين جاؤوا للنبي ﷺ متألـمين لحالهم لأن إخوانهم الأغنياء سبقوهم في ميدان الإنفاق فالأغنياء لديهم القدرة على ذلك، وهم لا يستطيعون، فدلهم النبي ﷺ إلى ميدان آخر وهو «ذكر الله تعالى»، وهذا إشارة إلى أن الميادين كثيرة وليست مقتصرة على ميدان واحد، فالمجال واسع جدًّا لمن شمر عن ساعد الجد لامتطاء جواد المنافسة. أقول: هذه القصة وأمثالها قصص كثيرة تعطي دلالة واضحة لتمثل الصحابة ومن بعدهم هذا المبدأ فأمسكوا بزمام صدارة الأمم لأحقاب تاريخية ليست قليلة.

وبعد: فلعل من الخير للمسلم بصفته الفردية أن يضع لنفسه برنامجًا عمليًّا للمنافسة ويبحث عن قدراته وإمكاناته فيفعلها فيما تجيده، وسيجد العاقبة حميدة بإذن الله تعالى، وهكذا يكون البناء للنفس البناء الحقيقي ويقال ذلك على مستوى الأسرة، والمؤسسة، والمجتمع بعامة، فأمتنا أمة «المبادرة»، «والمسارعة»، «والمسابقة» في الخير وإلى الخير في الدنيا والآخرة.
تولى الله الجميع بحفظه ورعايته.