من القلب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فمن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن جعلها أمة المحبة والرحمة، وأرسل لها رسول الرحمة، وبعثه رحمة للعالمين، ولإشاعة المحبة بينهم ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ، وقال ﷺ: «بعثت بالحنفية السمحة»، وجعل من مبادئه العليا: العفو والمعروف والصفح والسماحة ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، فأينما قلبت طرفك، وأينما وجهت وجهتك في هذا الدين الذي يصوغ حياة المسلم كلها فأنت تتقلب بين هذه المكارم، وترنو بها إلى المعالي، وتسموا بها فوق الدنايا، وتترفع بها عن أسافل الأمور، وسفاسفها.

فإليك أخي المسلم وأختي المسلمة، وبخاصة الشباب والفتيات، هذا الحديث، من هذا المنطلق العظيم، محبة ورحمة، واحترامًا وتقديرًا، لنصل إلى ما أراد لنا خالقنا، وأحب لنا نبينا محمد ﷺ.

فاتحة الأحاديث: إدراك المرء لنفسه، وقيمتها، وحكمة خلقها، ومعرفة قدراته، وإمكاناته، هذا الإدراك الذي يجعل العاقل يبدأ الانطلاق الحقيقي في مسيرته في هذه الحياة، التي تخطو خطواتها، ولا تعود إلى ما سبق فيوجب هذا سلامة هذا المنطلق ومنه إدراك: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] ، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ۞ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 – 163].

وثاني المفاتيح: أننا أمة عبادة وعلم تعبد الله تعالى على بصيرة، وتسير وفق سنن الله تعالى وتدرك أهداف وجودها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].

ومن هنا وأنت تدرك هذا المفتاح العظيم عليك أن تدرك أسنانه التي تقوم على العلم الحق، تأمل قوله سبحانه: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، وقوله سبحانه: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، ولتصل إلى أن تكون من خلفاء الأنبياء والمرسلين وورثتهم: «العلماء ورثة الأنبياء».

وثالثها: تحديد غاياتك وأهدافك في هذه الحياة مستقيًا ذلك من توجيهه تعالى لنبيه ﷺ من أول يوم بعثه فيه مقررًا له أن غايته: البلاغ والإنذار: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ۞ قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 1-2]، ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48]، وأنت تقتدي بنبيك ﷺ، فحدد أهدافك العليا في الوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى ودخول الجنة، وجد واجتهد في السعي إليها لتضم نفسك مع الذين ينفعون أنفسهم وغيرهم، ومن الذين يبنون ولا يهدمون، ويجتهدون ولا يتكاسلون، فما ارتفعت الأمم، ولا سمت أمجادها إلا بشبابها والمدركين لأهدافهم الصالحين المصلحين.

وختامها: إدراك العمل الصالح، والسعي إليه، والحذر من المعوقات والمبطلات، والمفسدات، وقد كان من مهام الرسالة العظيمة البشارة بالعمل الصالح، والنذارة من المخالفات ﴿ ﰂ ﰃ﴾، والشيطان أخذ العهد على نفسه بأن يكون الضال المضل، فاجتهد ويجتهد في وضع العراقيل، وزرع المعوقات، وإيجاد المثبطات، وتزيين السيئات.

والعاقل من يدرك ذلك ويسير في الخطين المتوازيين: العمل الصالح المثمر، والحذر من المثبطات أيًّا كانت من شياطين الإنس والجن. نفعكم الله تعالى ونفع بكم وسددكم، والله يحفظكم ويرعاكم.