home-icon
من الضيق إلى السعة

يبحث الإنسان كثيرًا عن مواطن راحته وطمأنينته، وقد يعمق البحث في جزئيات من سبل الحياة ووسائلها لعله أن يصل إلى مبتغاه، ولكنه قد يزداد تيهًا وضياعًا، وقد يصل إلى نقاط ضيقة وحرجة، فيحرج نفسه، ويضيق على غيره. ونحن بفضل الله تعالى قد أنعم ﷻعلينا بهذا الدين الذي أخرج الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، ومن التخبط إلى الاستقامة، ومن الضيق إلى السعة، ومن الظلم إلى العدل.

وعند التمعن في هذا المعنى الكبير والمقصد السامي ومقارنته بأعمال كثير من المسلمين وتصرفاتهم، نجده يُحزِنُ كثيرًا لعدم وضوحه في حياتهم، أو لضعف تمسكهم به، أو فهمهم المخالف له، ونجلي ذلك المعنى في الفقرات التالية:

من مقاصد الدين ترسيته للقيم العليا من الرحمة والمحبة والسماحة، والتعامل باللين واللطف، والقول الحسن، والنية الطيبة والإحسان، قال ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، وقال ﷻ: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]، وقال ﷻ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].

ومن السُّنة أحاديث لا تحصى مثل قوله ﷺ: «الراحمون يرحمهم الله»، وقوله ﷺ: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه».

هذا غيض من فيض من هذه الأدلة من الكتاب والسُّنة، تؤصل مبدأ السعة والبر والرحمة والمحبة، وكلها تقتضي من المرء المسلم تصورها واستشعارها، ومن ثم نقلها إلى واقع حياته وتعاملاته مع الآخرين، فليست مبادئ نظرية نتغنى بها، وفي الوقت نفسه -في مجال التطبيق- نضيق على أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا فنضع الجميع في زوايا ضيقة تعود علينا جميعًا بالآثار السلبية فكرًا وسلوكًا وتعاملًا.

وفي لمحة للواقع التطبيقي في دين الله ﷻ نجد هذا المبدأ ظاهرًا لا ينكره إلا جاهل أو متحامل.

ففي العقيدة الإله واحد سبحانه لا يحتاج إلى شفيع ولا وسيط فيخاطب عن طريقه. والتعبد له سبحانه بوضوح لا غموض فيه، ولا شكوك ولا أوهام، ولا التواء أو تعقيد. والعبادة قامت على اليُسر والسَّعة: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]. فالصلاة خُففت من خمسين إلى خمس بأجر الخمسين، ومن لم يستطع أن يُصليَ قائمًا فليصلِّ جالسًا، ومن لم يستطع أن يصلي جالسًا فليصلِّ مضطجعًا، ومن لم يستطع الوضوء فليتيمم.

والزكاة من مال الله تعالى، لا يخرج منها وجوبًا إلا ربع العشر وبعد حلول الحول.

والصيام شهر في العام، وفي النهار فحسب، ومن لم يستطع في هذا الشهر لمرض أو سفر فعدة من أيام أخر.

والحج والعمرة مرة في العمر وبنيت على التيسير في أدائها.

وفي جانب الأخلاق والسلوك نجد التوجيهات: للتعامل بأقصى ما يستطيع الإنسان من الإحسان حتى مع المخالفين من الكفار وغيرهم، قال ﷻ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83] ، ويقول ﷺ: «وخالق الناس بخلق حسن». وفي حال وقوع الأخطاء من المسلم في هذه الحياة، وهي كثيرة من العبد، شرعت المكفرات، ومن أهمها:

  1. عمل الصالحات: «وأتبع الحسنة السيئة تمحها»، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
  2. التوبة والاستغفار، مهما عظم الذنب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

وفي التعامل المالي: جعل الأصل فيه الإباحة، إلا ما دل الدليل على تحريمه، والمحرم هو القليل، والمباح كثير لا حصر له.

وغير ذلك مما لا يسعه هذا المقام، ولكن هذه إشارات يُستدل بها على ترسيخ هذا المبدأ العظيم، وقد تخرج على هذا المبدأ قواعد عظيمة أصبحت مستقرة في التشريع، منها:

  1. المشقة تجلب التيسير.
  2. كلما ضاق الأمر اتسع.
  3. الضرورات تبيح المحظورات.
  4. إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه.
  5. التوبة تجُبُّ ما قبلها.

وغيرها كثير مما يحتاج إلى فقه نظري، وفقه عملي، ليكون سلوكًا عمليًّا يتمثله المسلم في جوانب حياته كلها.

وفي المقابل نهى الإسلام عن كل ما يضاد هذا المبدأ مما ينحرف به يمنة ويسرة، ففي جانب العقيدة جاء النهي عن الغلو في الدين، والإحداث فيه، والابتداع فيه، والزيادة عليه، وكذا النهي عن الوسطاء والشفعاء للتقرب إلى الله ﷻ عن طريقهم.

وفي العبادات: النهي عن أشياء كثيرة، ففي الصلاة جاء النهي عن أي صلاة لم تَرِدْ في الشرع، وفي الإنفاق: النهي عن الإنفاق الذي يضر بالنفس أو الأهل، وكذا النهي عن الإسراف والتبذير، والتقتير، وفي الصيام النهي عن الوصال، والنهي عن صيام الدهر.

إنه المبدأ العظيم الذي نحتاج إلى إعادة الفقه فيه في واقع حياتنا ومعاملاتنا. وفي واقعنا صور كثيرة من التضييق يصعب حصرها، ومن أمثال ذلك:

تحميل النفس ما لا تطيق، ليس في العبادات فحسب، وهذا واضح، ولكن في العقيدة والتعامل، مثل: الحُكم على الآخرين بالكفر أو الفسق، أو غيرهما دون أن نُكلف بهذا، وهذا يورث التضييق على النفس بتحمل ذمم الآخرين، والجرأة عليهم، دون برهان أ ودليل.

وكذا الحكم على المجتمع بالضلال جملة وتفصيلًا دون التأمل والتفقه في هذه الأحكام. وكذا الأحكام الإجمالية على الأشخاص والأوضاع دون التأمل في نصوص الشرع المختلفة، والرجوع إلى أهل العلم. ومن ذلك التضييق على النفس في النظر السلبي لكل شيء، كأن الإنسان ينظر في نظارة سوداء فيرى كل شيء أسود دون النظر إلى المحاسن والإيجابيات، وفي ذلك يقول ﷺ: «من قال هلك الناس فهو أهلكهم»، ويصل الأمر إلى التضييق على الأسرة حتى فيما أباحه الشرع في شؤون الحياة المختلفة، وغير ذلك مما نعايشه في واقع هذه الحياة.
بقي أن نقول: إن تقرير مبدأ السعة، لا يعني الانفلات عن حدود الشرع، وتمييع نصوصه، أو العبث به، وفي ذلك صور كثيرة في واقع كثير من الناس، لعل لها حديثًا آخر.

ولكن أردت هنا التركيز على أن نعيش في ضوء فقهنا العلمي وفقهنا السلوكي، وما أراده الله ﷻ لنا من العيش في السَّعة في الدين، وفي أمور معيشتنا، وفي أنماط سلوكنا ولننعم برحمة الإسلام ونحيا في ظلال محبته، وننتج معتمدين على قواعده، لنصل إلى دار السلام آمنين مطمئنين، رزقني الله وإياكم ذلك.

سدد الله الخطى، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.