home-icon
معالم دعوية (الحج أنموذجًا)

مدخل:

الحمد لله رب العالمين وأصلِّي وأسلم على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإنَّ الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ الإسلام إلى الناس من أهم واجبات المؤمن في الحياة، يقول تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل: 125]، ويقول جل شأنه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[آل عمران: 104]، وغيرها من الآيات التي تؤكد وجوب الدعوة على أبناء الأمة، ويقول ﷺ: «بلِّغوا عني ولو آية» (رواه البخاري). وما كان لينتشر هذا الدين ويصل إلى أصقاع العالم لولا توفيق الله تعالى ثم جهود السلف الصالح في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد سخَّروا حياتهم وأوقاتهم وجميع إمكاناتهم من أجل دعوة الناس وهدايتهم. 

فضل الدعوة إلى اللـه ﷻ:

إنَّ فضل الدعوة إلى الله ﷻ كبير، وأجرها عظيم، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33] ، وقول رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حُمْر النعم» (رواه البخاري)، وقوله ﷺ: «من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا» (رواه الإمام أحمد).

كما يتبين فضل الدعوة وأهميتها في أنها من سنن أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، يقول الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۞ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[الأعراف: 61 – 62]، ويقول جل وعلا على لسان هود عليه السلام: ﴿وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۞ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ[الأعراف: 67 – 68]. وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ثم يقول الله تعالى عن خاتم الرسل ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ[المائدة: 67]. كما يتبيَّن فضل الدعوة إلى الله تعالى في أنها سبب في تنامي الحسنات واستمرارها لقول النبي ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم).

وأما مجالات الدعوة فتشمل جميع ما جاء به الإسلام في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والآداب وغيرها، ولكن أهمها على الإطلاق هو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل: 36].

صفات الداعية في الحج:

ومن أجل أن تأخذ الدعوة طريقها الصحيح ويتقبل الناس هذا الدين من دعاته لا بد أن يتحلى هؤلاء الدعاة بمجموعة من الصفات والخصال، وهي كثيرة لا يمكن الإشارة إلى جميعها في هذا المقام، ولكن يمكن الإشارة إلى أهمها، والتي تتطلبها ظروف الحج وأحواله الخاصة، وهي:

  1. إخلاص العمل لله تعالى، فلا يعتري عملَهم رياء أو مصلحة أو شهرة أو أي مكسب دنيوي، وإنما الغاية الكبرى والهدف المنشود هو إرضاء الله تعالى بإيصال رسالته إلى الناس، قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[هود: 51]. وقد أمر الله تعالى عباده بالإخلاص في العمل، حتى يتحقق النجاح في الدنيا ويحصل لهم الأجر في الآخرة، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة: 5].
  2. العلم الشرعي: وهو شرط مهم لنجاح الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه العلم الذي يُعرف به الحلال من الحرام، ويُعرف به المصلحة من المفسدة، والذي يدعو من غير علم ربما يدعو إلى المنكر ويحسبه معروفًا، أو ينهى عن المعروف ويحسبه منكرًا، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف: 108].
  3. الحلم والرفق بالناس، لأن ذلك يؤثر في نفس المدعو ويجعله أكثر استعدادًا لتلقي الدعوة والاستماع إلى الداعية: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران: 159]، وقال ﷺ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (رواه مسلم). فالقسوة والغلظة والجفاء لا تأتي إلا بالنفور وعدم الإنصات إلى الداعية، لا سيما في أثناء أداء مناسك الحج، حيث تعب الأسفار والتنقلات والزحام في كل مكان، وتعب الغربة والبعد عن الأهل والديار، وكل ذلك يستدعي الرفق بالحجاج وعدم التشديد عليهم.
  4. الصبر وتحمل المشاق، لأن الداعية معرض دائمًا للمعاناة النفسية والجسدية، الناجمة عن طباع الناس واختلافاتهم، أو من جهلهم بالأحكام ومن ثَمَّ وقوعهم في المحظورات والمحرمات، وخصوصًا في مناسك الحج، وهذا الواقع يحتاج منه إلى الثبات والتحمل، فلا يصيبه الملل أو الكسل بل عليه المواصلة والتوكل على الله ﷻ.
  5. التواضع مع الناس، لأنَّ النفوس جُبلت على حب من يتواضع معها بالتواصل وكره من يتكبر عليها ويتعالى، فالداعية يحتاج إلى خُلق التواضع في دعوته، فيرحم الصغير ويوقر الكبير، ويعطف على المريض والضعيف، أسوة بالنبي ﷺ، حيث كان ﷺ أنموذجًا عمليًّا لهذا الخُلق الكريم، تقول ابنة لخباب رضي الله عنهما: خرج خباب في سرية فكان النبي ﷺ يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزًا لنا، قالت: فكان يحلبها حتى يطفح أو يفيض» (رواه أحمد).

الدعوة في الحج:

إنَّ ميادين الدعوة كثيرة لا يمكن حصرها في مكان دون غيره أو تخصيصها لفئة من الناس دون غيرهم، لأنها ميادين مفتوحة لجميع الناس، وموسم الحج من أهمِّ هذه الميادين، لأنه أكبر تجمع إسلامي، يجتمع فيه المسلمون من أرجاء العالم على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وألوانهم وعاداتهم، وإن كثيرًا من هؤلاء الحجاج ليس لديهم العلم الشرعي الكافي بأمور الدين من أحكام العبادات والطاعات، فضلًا على ما يشوب أفكار بعضهم من البدع والأساطير التي لا تمُتُّ إلى الإسلام بشيء. وقد كان ﷺ ينتهز موسم الحج في الجاهلية للدعوة إلى التوحيد وتبليغ الإسلام إلى الناس، حيث كان دخول الإسلام إلى المدينة عبر هذه القناة، الدعوة، فقد أسلم مجموعة منهم في أحد مواسم الحج، وذهبوا به إلى المدينة دعاة حتى تمكَّن الإسلام هناك. وقد كان ﷺ داعية في حجة الوداع، يخطب في الناس في المشاعر المقدسة، في عرفة وأيام منى وعند الجمرات، يعلِّم الناس أحكام الدين ويبيِّن لهم مناسك الحج، ويقول لهم: «خذوا عني مناسككم» (رواه الإمام أحمد).

الأدوات المعينة في نجاح الدعوة في الحج:

يمكن إجمال هذه الأدوات في النقاط الآتية:

  1. استشعار أن الدعوة إلى الله ﷻ هي عبودية وطاعة كسائر العبادات، فكلٌّ من العمل والأخذ بجميع الوسائل الممكنة والمشروعة من أجل التوفيق بين أداء نسك الحج، وتعريف الناس بالإسلام الصحيح، من العبادات التي تقرب العبد إلى الله ﷻ.
  2. أن يحدد الداعية سابقًا بعض الأهداف أو المحاور التي ينوي توضيحها للناس، من خلال محاضرة أو توجيه مباشر أو موعظة عامة، ومن أمثلة ذلك:
  • بيان مناسك الحج للناس وفق الهَدْي النبوي، والتحذير من الأخطاء والمخالفات المتكررة من الحجاج.
  • تصحيح الأخطاء العقدية لدى الناس، كالتوسل بالقبور والأموات وغير ذلك.
  • تبصير الناس بواجباتهم الشرعية والمحافظة على فروضهم كالصلاة والصيام.
  • تبصير الناس بمحاسن الأخلاق وضرورة الالتزام بها في الحياة اقتداء بالنبي ﷺ الذي كان خُلُقه القرآن. وغير ذلك من النقاط المهمة.
  1. استخدام الأدوات الدعوية في أماكنها المناسبة، مثل توزيع الكتب والأشرطة، أو الاجتماع بهم في المساجد، أو أماكن إقامتهم وفي المشاعر وغيرها، مع ضرورة مراعاة ظروفهم وأحوالهم.
  2. معرفة أساليب الدعوة، بحيث تكون متناسبة مع مستوى المتلقين، فلا يدخل معهم في الفروع العقدية والفكرية التي تهدر الأوقات وتشتت الأفكار وتنفِّر الناس، بل تكون في مستوى عقول الناس.
  3. الدعوة إلى الله تعالى حسب أولويات الدين، فيبدأ بالعقيدة ثم العبادات، وهكذا.
  4. ضرورة التنوع في الدعوة، بحيث لا يسير الداعية على نهج واحد ولفترات طويلة، من أجل تذكير الناس وتعريفهم بدينهم، فلا يقضي كل وقته مثلًا في شرح مناسك الحج عبر الدروس في المسجد، بل ينوِّع بحيث يكون أحيانًا عبر شاشة عرض تلفزيونية، أو على شكل كتيب، أو يكون من خلال مسابقة بالسؤال والجواب، حتى لا يصيب الناس الملل والسآمة.
  5. مشاركة الحجاج معهم في الدعوة، وهذا نوع من التشجيع للقيام بنشر الدعوة حتى في خارج مواسم الحج، لا سيما الوافدين من البلاد النائية والبعيدة عن الديار المقدسة، ليصبح هؤلاء رسل خير لأهلهم وبلادهم بعد الحج.

بعض الأساليب الدعوية الناجحة في الحج:

من خلال التجارب الدعوية الكثيرة في مواسم الحج، تبين أن هناك بعض الأساليب التي أسهمت في تعريف الناس بمناسك الحج وسائر الأحكام المتعلقة بالعبادات والحلال والحرام، ومن أهم هذه الأساليب:

  1. شرح مناسك الحج يوميًّا، بالفيديو أو عن طريق بيان صباحي، وتكرار هذا الشرح في سائر اليوم، لأن الناس أحيانًا لا يفهمون في المرة الأولى أو الثانية.
  2. المحاضرات والندوات بحسب نوع الموجودات مع تحديد موضوعاتها.
  3. تحديد شيء من حفظ القرآن الكريم، ويختلف باختلاف الناس ومداركهم وقدراتهم.
  4. المسابقات الهادفة، التي تركز في الغالب على شرح مناسك الحج، وسائر الفرائض، وتقديم الحوافز التشجيعية والهدايا للمشاركين في المسابقات.
  5. فتاوى الحج، من خلال سؤال وجواب، ويستفاد في فتاوى الحج من أهل العلم المعروفين.
  6. ربط الحجاج بصفة حج النبي ﷺ، ويكرر ذلك بوضوح.
  7. تشغيل الأشرطة النافعة، كالتلاوات والخطب والدروس بحيث تقدم في أوقات مناسبة، وليس في أوقات القيلولة أو النوم.
  8. التعاون والتنسيق بين الدعاة في المواقع المختلفة، حتى تتحقق أهداف الدعوة في تعريف الناس بالإسلام والأحكام بصورة متكاملة مع أحكام الحج.

أخطاء يجب تجنبها في الحج:

  1. الحذر من الرياء أو السمعة أو المكاسب الدنيوية.
  2. الوضوح في الدعوة، حتى يصبح الناس على بينة من الأمر، لأنَّ الغموض يشوش على الناس أداء المناسك ويَكثُر عليه الاختلافات.
  3. معرفة أن كلمة (لا أدري) نصف العلم، فليس من الضروري أن يعرف الداعية كل شيء، وإذا أشكل عليه الأمر رجع إلى فتاوى العلماء.
  4. اتباع الوسطية في الدعوة إلى الله، من غير غلو أو تهاون.
  5. استقبال الناس ببشاشة وابتسامة، لأن طلاقة الوجه تبشر بالخير وحسن الاستماع.
  6. رفع الحرج عن الناس وعدم التضييق عليهم بالترهيب والتخويف، فقد كان ﷺ سهلًا مرنًا، لا سيما في الحج، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: فما رأيته ﷺ سئل يومئذ عن شيء إلا قال: «افعلوا ولا حرج» (صحيح مسلم).

نسأل الله تعالى أن يعين جميع الحجاج على أداء مناسكهم، وشَكَرَ الله سبحانه وتعالى سعي كل عامل للحج والحجاج، ووفَّق ولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.