
من المُسلَّم به أن من أهدف هذا الدين عمارة الكون الحسية والمعنوية من جميع جوانبها، وفي كلتا العمارتين خير عظيم إذ بهما تتم حياة الإنسان، ويرتقي في سلم الصعود نحو كل خير وفضيلة، وبهما يستثمر ماله وقدراته ومواهبه، كما يستثمر كنوز هذا الكون الذي أودعه الله تعالى فيه، وأمره بالاستفادة منه.
لا أطيل في هذا المدخل، فحسبي أنها معلومة لدى كل مسلم يقرأ كتاب ربه، ويطلع على سيرة نبيه ﷺ، ويكفي في الدلالة على ذلك أن أكثر آيات القرآن الكريم توجه نحو التأمل والنظر والتفكير في هذا الكون العجيب.
وعلى مدى التاريخ مكَّن الله تعالى للإنسان الاستفادة بأجزاء منه كما قص علينا سبحانه في قصص الأمم السابقة، وما زال فيه من الكنوز ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا جدير بهذه القضية –أعنى عمارة الكون الحسية والمعنوية– أن تأخذ حظها الوافر من الدراسة والبحث، ووضوح رؤية الإسلام فيها، وكيفية الاستفادة منه، وطرائق ذلك، والعوائق والصعوبات التي تكرر هذه المسيرة العظيمة لهذا الكون العريض.
ولست هنا بصدد التفصيل لهذه القضية، لكني أنطلق منها إلى تقرير حقيقة، أجد أننا في مسيرتنا في هذه الحياة بحاجة إلى التفاعل معها لكي نكون منسجمين مع سنن الله ﷻ في هذا الكون، ذلك هو أننا مأمورون بالبناء حسيًّا ومعنويًّا.
- البناء العلمي.
- البناء الاجتماعي.
- البناء التربوي.
- البناء الاقتصادي.
- البناء الحضاري بعامة، وغيرها.
إن من أعظم معالم هذا الدين حث المسير لهذا البناء، لنقرأ قوله تعالى في أول ما أُنزل من القرآن الكريم: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ۞ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۞ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ۞ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ ۞ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5]. وقوله تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]. وقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]. وغيرها من نصوص القرآن الكريم والسُّنة النبوية، هذا فقط في البناء العلمي والمعرفي، ومثله يقال في البناء التربوي والاجتماعي وغيرها مما أرجو أن يفصل في فرص قادمة.
وإذا كان يقال ذلك في حق الأفراد، فمن باب أولى في حق المجتمعات والأوطان والدول.
وإذا كانت هذه حقيقة مستقرة لدينا -نحن المسلمين- ومؤصلة في القرآن والسُّنة، فينبني على ذلك عدة أمور، يجب أن تأخذ حظها الوافر، من التفكير، والخطط، والعمل، ومن أهمها:
- أن البناء المطلوب هو الذي يجب أن يعمل به المسلم، ويبذل فيه تفكيره وجهده، في أي مجال من المجالات، ومن هنا فيجب أن يسأل المرء نفسه: ما المجال الذي أقدم فيه لبنة في هذا البناء الضخم؟ ونسأل المؤسسات نفسها: ما البناء الذي تقدمه ضمن مسيرة هذا المجتمع أو تلك الدول؟
- من العبث والهدر للجهد والقدرات والطاقات أن تضيع الجهود سدى، ونهمل البناء، ونتجه لضياع الوقت والجهد في أمور تافهة، والله تعالى سيسأل المرء عن وقته، وشبابه، وماله، وهو سائل كل راع عما استرعاه حتى الخادم في بيت سيده.
إن من المؤسف أن ترى جهودًا مهدرة، بدنية ومالية ونفسية على مستويات مختلفة لا تخدم مسيرة البناء، بل قد تصل إلى أن تكون عائقًا من عوائق هذه المسيرة، ومن ذلك:
- ضياع وقت الشباب في النوم الطويل، والتسكع، والسهر على أمر غير مفيد.
- ومثله بحق الفتاة أن تهدر طاقتها في مجالات هامشية كمتابعة الفضائيات.
- وهما معًا في العكوف على الإنترنت ساعات طويلة.
- إهدار الأموال في الكماليات مع النقص في الضرورات والحاجات، وذلك كالمنافسة في «موديلات» الجوالات وكاميرات التصوير وغيرها.
- الإهدار المعرفي في أخبار جزئية، أو كلام غير سليم، أو نشر للرذيلة، كما يوجد في بعض المطبوعات الصحفية وغيرها، وأشد منها في النت.
وغير ذلك مما يعلمه الناس، وما أؤكد عليه أنه من المهم أن يعلم الجميع أنه بقدر ما يهدر من الجهود والأموال تكون عوائق البناء.
ومن أهم عوامل مسيرة البناء إدراك أهم أسسه، وبخاصة لنا نحن المسلمين، ومنها: أن البناء ينطلق من وحدة المجتمع وتماسكه وتعاونه، مهما جرى بين عناصر المجتمع من الخلافات الجانبية، ووجهات النظر التي ينبغي أن تأخذ مسارها العلمي في حلها والموقف منها.
إن هذه الوحدة هي منطلق البناء وركيزته الأساس، ولذا جاء التركيز عليها في القرآن الكريم، وفي سنة نبينا محمد ﷺ القولية والعملية، يكفى أن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2] وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] ومن هذا المنطلق يتعين على الأفراد، والمؤسسات السعي لتأصيل هذه الركيزة، والمنطلق الأساس للبناء.
ومما يخدش هذه الوحدة:
- اعتزاز كل ذي رأي برأيه، والنظر إلى الآخرين بعين النقص، وعدم المعرفة، وأشد منه النظر إليهم بسخرية واستهزاء.
- تجاوز مسلَّمات المجتمع، وثوابته الشرعية، وادعاء المعرفة في كل شيء.
- تجاوز أهل العلم، والتطاول عليهم، والسخرية بهم، والتنقص لآرائهم، وعدم احترامهم، وهذا وحده كفيل بخروج فئتين متناقضتين ويجمعهما رفض التوازن في المجتمع، والميل إلى الإفراط والتفريط في الأمور.
- التطاول على ولي الأمر والخروج عليه فكريًّا وعلميًّا فضلًا على الناحية العملية، وهذا جدير بأن يخرق سفينة المجتمع.
فيجب القيام بالمسؤولية الملقاة على عائق المرء أيًّا كانت هذه المسؤولية، أسرية أو وظيفية أو علمية، إلخ، والشعور بعِظمها وأهمية تحمُّلها، وأنها جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان ووجوده فوق هذه الأرض، جاء التصريح بها واضحًا في كتاب الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾ [الأحزاب: 72] والرسول ﷺ يحدد معالم هذه المسؤولية بقوله: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
إن الشعور بهذه المسؤولية، يجدد عزم الموفقين، ويدفعهم للنهوض بها، ولو كانت في عينه صغيرة، أو أمام أعراف المجتمعات أنها كذلك فالله جل وعلا يُحصي على المرء كل شيء صغيرًا أو كبيرًا ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۞ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
كما أن العيش سبهللًا، مع تدني نسبة الشعور بهذه المسؤولية ينزل بمستوى الإنسان إلى مستوى يجعله من الصعب أن ينهض بالبناء فيتجه إلى الهدم والخراب له ولمجتمعه.
إدراك الأسس، والثوابت، والأحكام الشرعية التي تضمن سلامة المسير، ومن ذلك البُعد عما يخدش الدين في ثوابته وأحكامه، وكذا ما يخدش الوطنة والمجتمع في اتحاده ومشروعاته الإنمائية والبنائية.
ومجالات البناء متعددة وكثيرة تتسع لجميع أفراد المجتمع جنسًا وسنًّا وتخصصًا ووظيفة وعملًا، ويمكن أن يحدد المسلم المجال المناسب له من خلال قدراته وعمله وهواياته ووظيفته، وبهذا تتكامل الجهود، ويصبح كل واحد في المجتمع المسلم لبنة يكمل بها البناء، ويصبح عنصرًا فاعلًا في هذه البنية المتكاملة.
إن من الخطأ أن يتجه الأفراد أو المجتمع إلى ما يلي:
- مجرد النقد دون الحلول الناجحة.
- العبث بالمقدرات والقدرات.
- عدم تشغيل طاقة الفرد فيما ينفع.
- تشغيلها بما يهدم فكريًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو تربويًّا.
ومن الخطأ: إهدار الطاقات في أشياء قد تهدم ما يبنيه الآخرون، على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع، ويمكن أن نمثل بمثال واضح للجميع كمن يهدر طاقته في «التفحيط» أو «إيذاء الآخرين» أو «التسلط عليهم». قال ﷻ: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16].
وللحديث بقية. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...