home-icon
قيام الليل في رمضان

عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه».

قيام الليل سُنة مؤكدة في سائر أيام السَّنة، فقد تواترت النصوص من الكتاب والسُّنة بالحثِّ عليه، والترغيب فيه، ببيان عِظَمِ شأنه وجزالة الثواب عليه، قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]. وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]. وذكر من صفات عباد الرحمن أنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان:64]. وثبت في صحيح مسلم عن النبي قال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة -يعني الفريضة- صلاة الليل».

وأخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : «إن في الجنة غرفًا، يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام». والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فصلاة الليل لها شأن عظيم في تجديد الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، كما فيه صلاح الأحوال والمآل قال ۞: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًۭا * نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًۭا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـًۭٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا ٦ ﴾ [المزمل: 1-6]، ولذا كان من هدي النبي طول القيام في صلاة اللَّيل، حتى كانت قدماه تتورمان، فعن المغيرة قال: قام النبي حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!».
وقد كان قيام الليل دأب النبي وأصحابه، قالت عائشة : «لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدًا».

فكان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم الصلاة الصلاة، ويتلو: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ [طه:132]. وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر:9]. قال: ذاك عثمان بن عفان ، قال ابن أبي حاتم: وإنما قال ابن عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة. وعن علقمة بن قيس قال: «بت مع عبد الله بن ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يراجع، يُسمع مَن حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر.
روى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت: كان مسروق يصلي حتى تورمت قدماه، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه.

قال قتادة: لما احتُضِر عامر بن عبد قيس بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل. وجاء في السُّنة الصحيحة ما يدل على أنَّ قيام الليل من أسباب النجاة من الفتن، ففي البخاري وغيره عن أم سلمة أن النبي استيقظ ليلة فقال: «سبحان الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتنة؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات» وفي ذلك تنبيه على أثر الصلاة بالليل في الوقاية من الفتن.

وأخرج الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله قال: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم».
ويزيد التأكد واستحباب قيام الليل في شهر رمضان، وقد بيَّن تأكد صلاة الليل واستحبابه في شهر رمضان بقوله: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه».

قوله ۞: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا» معنى «إيمانًا» تصديقًا بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى «احتسابًا» أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. والـمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها. وقوله ۞: «غفر له ما تقدم من ذنبه» الـمعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر، قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر ما لـم يصادف صغيرة.

وفي حديث آخر عند مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فتوفي رسول الله والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، ومعناه: استمر الأمر هذه المدة على أن كل واحد يقوم رمضان في بيته منفردًا حتى انقضى صدر من خلافة عمر، ثم جمعهم عمر على أُبَيِّ بن كعب فصلى بهم جماعة، واستمر العمل على فعلها جماعة، وقد جاءت هذه الزيادة في صحيح البخاري في كتاب الصيام.

وأصل صلاة التراويح جماعة عمل الرسول ، ولما خشي أن تُكتب عليهم هذه الصلاة تركها، أي جماعة، ففي الصحيحين عن زيد بن ثابت أن النبي اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال رسول الله : «ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يُكتب عليكم، ولو كُتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإنَّ أفضل صلاة المرء في بيته إلَّا الصلاة المكتوبة»، وفي هذا الحديث شفقة النبي على أمته، وفيه حرص الصحابة على السُّنة، ورغبتهم في قيام الليل.

وقصة جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح كما ورد في البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ﷻ ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعْمَ البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.

وقيام الليل في رمضان شامل لأوله وأوسطه وآخره، وعلى المسلم أن يحرص على حضور صلاة التراويح جماعة زيادة على ما يتيسر له من القيام منفردًا لحصول مزيد من الأجر والثواب كما في حديث أبي ذر قال: قال رسول الله : «من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة».

وكان من هدي السلف طول القيام، فقد روى مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبَيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس إحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العِصِيِّ من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر». وكان من هدي النبي أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة كما في حديث عائشة ﷻ ، ولكن أجاز للأمة أن يقوموا بما يتيسر لهم، فقد صح عن النبي أنه قال: «صلاة الليل مثنى مثنى» فلم يقيد الصلاة بعدد، فيصلي ما شاء الله، غير أنه لا يوتر إن كان أوتر مع الإمام أول الليل، لقوله ۞: «لا وتران في ليلة».
فعلى المسلم أن يغتنم شهر رمضان المبارك بكل ما صح عن النبي في فضله، ومن ذلك قيام الليل، ولا يفوته القيام والدعاء آخر الليل لأنه صلى التراويح في المسجد أول الليل، لأن العبادة في الثلث الأخير من الليل لها مزايا وفضائل كثيرة كما ثبتت في السُّنة الصحيحة.

نسأل الله التوفيق واغتنام الفرص ومسابقة الخيرات والقبول، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.