home-icon
قال لي صاحبي

الحلقة (1):

قال لي صاحبي: ألا ترون معاشر طلبة العلم والمثقفين ومتابعي الكتابات في (الإنترنت) والمجلات العلمية، والصحف السيارة، ومتابعي ما يُطرح في كثير من الفضائيات وغيرها على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي أنه لم يعد هناك حاجز لانطلاقة القلم واللِّسان في أي موضوع، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، ولم يعد هناك أهمية ذات بال للتخصص العلمي أو المهاري أو غيره، فكلٌّ يكتب ما شاء كيف شاء، وأصبح كثيرون مفتين وعلماء واقتصاديين وسياسيين، ومنظرين وناقدين وشعراء وكُتاب قصة، واجتماعيين ونفسيين وغير ذلك، وكان القلم في زمن ليس بالبعيد محترمًا، والكلمة نفيسة، وكثيرًا ما يتعب المحررون في الصحف أو المجلات العلمية فضلًا على الحديث في الشاشة فلا يجدون إلَّا القليل، ترى ما السبب؟ إنه أمر يدعو للوقوف والتأمل، لست أحدثك يا صاحبي عن كونه خطأ أو صوابًا، وإنما هي ظاهرة تستجلي النظر في وقتٍ العالم جميعه يبحث عن الرُّقي والتقدم، كما يبحث عن تخليصه من المشكلات، وإخراجه من الأزمات، ألست معي في ذلك؟! قلت: بلى، ولكن…

قال: عفوًا، دعني أكمل فكرتي، أو على الأصح تأمُّلي وسؤالي، ترى هل السبب أنَّ الناس انفتحوا على العلم، وأصبحت مصادر المعلومة متوافرة فكلٌّ ينهل منها؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل هو سائغ، أو أن السطحية في العلم، والبُعد عن أعماق التخصص كانا السبب في جرأتنا على أن نخوض في كل ما يحلو لنا، أو أنَّ الضغوط العالمية وتحميل هذا الدين وهذه الأمة أكثر مما تتحمل جعل الجميع يسهم سلبًا أو إيجابًا ولو كان عن غير دراية، أو أن بعضنا أصابه ما أصابه والمهم أن يكتب أو يتحدث بأي صورة من الصور؟!!

قُلتُ لصاحبي: مهلًا، أنت طرحت قضية عميقة لها جذورها وامتدادها وتشعبها، فحتى لا يسترسل الكلام فيضيِّع بعضه بعضًا، وتتشعب الأفكار، ويصبح كحديث بعض المجالس الذي ينتهي من حيث لم يبدأ.

وبادئ ذي بدء أشكر لك غيرتك على بني قومك، وتمنيك الأمنية أن ينهجوا منهجية مستقيمة في التفكير، ومن ثَمَّ المشاركة في الكتابة والحديث وغيرها، وألا يستسلموا لصفع الأحداث، فتختلط الأقلام، وتلتبس المفاهيم.

ولعلِّي أسهم معك في جزئية مما طرحت، فحسبي أنني من المختصين فيها، أما بقيَّة القضايا المتشعبة مما طرحت كحرية الرأي والقلم، أو دعاوى المعرفة، أو التعدي على التخصصات، أو اتهام مؤسسة من المؤسسات، أو خطورة الكلمة وغيرها، فهذه تحتاج إلى ملفات وورش عمل، ولعلي أشاطرك الرأي في أنَّ الفتنة عمياء، تخبط فيها من تخبط وضاعت فيها أحلام، وجعلت تبحث عن المخارج من هنا وهناك حتى شط من شط يمنة ويسرة، فوصل بعض الشباب إلى الغلو في النظرة حتى قالوا بتكفير المجتمع، وتمادى بعضهم إلى خطوات عملية لإصلاح المجتمع زعموا- بالتفجير والتخريب للممتلكات والقتل للأفراد، محتجين بحجج يُظَن أنها شرعية كقضية الولاء والبراء، وإخراج المشركين من جزيرة العرب، ونحو ذلك مما يحتاج إلى نقاش تفصيلي هادئ بالأدلة الشرعية والقواعد المرعية والواقعية.

كما وصل بعضهم ممن أشرت يا صاحبي إلى أن يكتب ويتكلم كيفما اتفق حتى ألـمح بعضهم في كتابته إلى أن سر تأخرنا عن ركب أمم الأرض تقنيًّا هو تمسكنا بشريعة الله سبحانه وتعالى وجعلها منهاجًا لحياتنا، فنادوا بكثير من الإصلاحات -زعموا- ومنها أن سبب إشكالاتنا مناهج تعليمنا، وحجاب نسـائنا، فظهرت مناداة بتغير المناهج، واختلاط النساء بالرجال، وغير ذلك مما لا مجال للاسترسال فيه. 

وكأنَّ الناس بعد ذلك أصبحوا فسطاطَين، وتشيع المقالات والكلام أنت معي أو ضدي وما أشبهها.

ونسي أو تناسى هؤلاء وأولئك منهج الإسلام المتمثل في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3].

نسوا أو تناسوا الرجوع إلى ما يجب الرجوع إليه، وهو مصدرية التلقي الصحيحة المبنية على الكتاب والسُّنة التي توضح العواصم من القواصم، نسوا أو تناسوا الحلم والتأني وبخاصة عند الفتن والشبهات وتكالب الأزمات والمحن وضبط النفس والقلم.

نسوا أو تناسوا منهجية النبي ﷺ في التعامل مع الملمات، ومن هنا يا صاحبي دعني أحدثك عما أحاول إجادته، والإسهام فيه، وهو مجال تخصصي، فأبتعد عن غير مجالي فلا انتقد غيري وأقع بمثل ما وقع فيه. وهو ما أشرت إليه يا صاحبي في بداية الحديث من النظر في الأحاديث، والتعامل مع السنة في ضوء الواقع الذي أشرت إليه في إشكاليتك في مطلع الحديث، وأعدك بالمواصلة في ذلك في الحلقات القادمة بإذن الله، وفقك الله وسدد خطاك وأنار بصيرتك ودلنا وإياك وإياهم إلى الحق والعمل به، وشكرًا على غيرتك. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلقة (2)

قال لي صاحبي: لا شكَّ أنَّ ما ذكرته في مسامراتنا السابقة حق، فأكمل ما تريد التوصل إليه.

قلت: نعم، لقد تشبعت الأقلام بين غالٍ ومفرِّط، ولعلِّي أركز الحديث معك فيما هو يختص بالسُّنة النبوية ومناهج التعامل معها.

وأقول: لقد تعامَلَت مع السُّنة النبوية أقلام فغلت تجاه النصوص النبوية حتى حجرتها في دائرة ضيقة ولم تعطها السعة الحقيقية التي جاءت بها، مثال ذلك: نصوص الوعيد الذي توعد الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ فيها العصاة بأنواع من العذاب مثل قول النبي ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم…» الحديث. فأخذوا النص على ظاهره، ولم يقارنوه بالنصوص الأخرى كنصوص الوعد، فحكموا بالكفر على صاحب الكبيرة، وبهذا المنظار تعاملوا مع نصوص كثيرة، فاضطرب منهج الاستدلال لديهم.

قال لي صاحبي: وما الأسباب التي أدت إلى هذه النظرة، وهي فيما يظهر لي نظره خطيرة من جهة الاستدلال، ومن جهة ما يترتب عليها من آثار علمية وفكرية، وآثار عملية.

قلتُ: أجل، ولعلنا نبدأ بما أشرت إليه من الآثار الخطيرة لهذا المنهج، ومن أهمها:

  1. الاضطراب في منهج الاستدلال بمعنى أنَّ من يقول بهذا القول لن تضطرد معه قاعدة أصولية تجاه التعامل مع السُّنة النبوية، ومن ثَمَّ التناقض والاضطراب.
  2. التخبط في الأحكام؛ لأنَّ منهج الاستدلال غير سليم فيعطي نتائج غير سليمة.
  3. الشدَّة في تناول الأحكام العملية، فهم يعدون هذا هو المخرج من الإشكالات التي تعترضهم.
  4. الجرأة في الحكم على الأشخاص كفرًا وفسقًا، وابتداعًا وغيرها؛ لأنَّ هذا نتيجة من نتائج طريقتهم في الاستدلال، فمن أخذ بظاهر هذه النصوص دون عرضها على النصوص المقابلة لم يجد مسوغًا ألا يحكم على هؤلاء الأشخاص بالكفر أو الفسق ونحو ذلك.
  5. التعدي والجرأة -وبخاصة على أهل العلم المعتبرين- فيصمهم بالجهل، أو المجاملة مع الآخرين، أو أكثر من ذلك يبيع ذممهم في سبيل الدنيا، ويقع هؤلاء بهذه النتيجة لأنَّ أول من يرونه يصطدم معهم هؤلاء العلماء الذين يبدون مخالفتهم في منهجهم، وهم الذين يستطيعون توضيح أخطائهم، وإبراز مخالفاتهم، انطلاقًا من هذا المنهج المضطرب.
  6. وقد يصل الأمر إلى التضييق على الناس في عبادتهم وأحوالهم ومعاشهم لأنهم يعدونهم عصاةً بعيدين عن منهج الله سبحانه وتعالى.
  7. الخلط في المفاهيم الكبرى، وهذه من أعظم الآفات التي يقع فيها أصحاب هذا المنهج الخطير، مثل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينقلون المفاهيم العظيمة من كونها مفاهيم واسعة إلى مفهوم ضيق ينحصر في الخروج على الوالي فيأخذون بمذهب الخوارج، ومن ذلك مفهوم الجهاد وغايته، فيحصر هذا المفهوم بأن الجهاد: القتال فحسب، دون النظر إلى النصوص الأخرى التي توسع المفهوم إلى أن يكون شاملًا لجهاد النفس وكفها عن المعاصي، وجهاد المنافقين بالحُجة والبيان، وجهاد الشيطان بمدافعته عن الغواية، وجهاد الكفار بمقاتلتهم هو جزء من المفهوم وليس المفهوم كله.

وغير ذلك من الآثار الخطيرة، وواحد منها كافٍ لبيان ضرر هذا المنهج ووجود هذه الآثار وغيرها، لكن المقام مقام إجمال لا تفصيل.

قال لي صاحبي: عجبًا لهذا المنهج الغالي، ولكن يرد السؤال السابق ما الأسباب التي أدت إلى الوقوع في هذا المنهج الخطير الذي تنوعت آثاره وشملت الفرد والأسرة والمجتمع بل تعدت إلى انحراف مفاهيم في الدين نفسه؟

قلت: هذا المنهج وُجد قديمًا، ويظهر في المجتمعات المسلمة بين حين وآخر، فليس ما تراه وتسمعه في هذا الزمن ببعيد عما جرى على مدى تاريخ الأمة المسلمة منذ ظهور هذا الدين. وبعثة النبي ﷺ إلى يومنا الحاضر، لكن من الخير العظيم أن يُتعرف على الأسباب لتكون المعالجة معالجة شمولية. تصحح ما وقع فيه هؤلاء، وما يلبس على غيرهم، وبخاصة أنَّ العالم اليوم عالم منفتح، والمعلومة متداولة، وكما يقال: العالم كالقرية الواحدة، بل أصبح الآن أعظم.

وإنَّ من أهمِّ الأسباب التي يجب أن نصارح أنفسنا بها، ونصارح بعضنا، وتكون محل تأمل ونظر من طالب العلم المبتدئ، والمتوسط والداعية، والمسؤول، والمفكر والمثقف والأب، والأم، والموجه وغيرهم، أقول من أهم هذه الأسباب ما يلي:

  1. الجهل بدين الله تعالى حقيقة، فهو أم الآفات، والجهل المراد به هنا: الجهل بمصادر التشريع، وأدلته، وطرائق الاستدلال، فيترتب على ذلك البُعد عن المنهج الصحيح والوقوع في الاضطراب هو التناقض في الأحكام، والضيق في النظرة، والحنق في المخالفة.
  2. من أهمِّ الأسباب تلقي العلم والفتوى من غير أهلها، والله جل وعلا قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[النحل: 43] وأشاد بالعلماء، وجعلهم النبي ﷺ ورثته، وما حادت الأمة عن هذا المنهج إلَّا ضلت وأضلت، والمنطلق هو مصدر التلقي، وفرقة الخوارج التي خرجت على عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما إنما انطلقت في ضلالاتها من الحيدة عن كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى المجاهيل الذين لم يعرفوا بعلمهم ولا تاريخهم.
  3. ومن الأسباب أيضًا النظر للقضايا بغير النظر الشرعي الدقيق، ومن ذلك المصطلحات، مثل: المعصية، التكفير، الضلال، الفسق، الابتداع، الولاء، البراء، النفاق، تلك المصطلحات التي ضبطت شرعًا، وهي مصطلحات وردت في القرآن والسُّنة، وهي في الوقت نفسه مصطلحات دقيقة تحتاج إلى دقة نظر وجمع للنصوص، فمن أخذها من زاوية دون أخرى لم يستطع ضبطها، ومن ثَمَّ وقع في الضلالة، فعلى سبيل المثال: الكفر، لو أخذ المسلم بهذا المصطلح على إطلاقه كما ورد في النصوص لكفَّر كثيرًا من المسلمين، لكن لو جمع ما ورد في هذا المصطلح وجمع نظائره لخرج بنتيجة أخرى ولعرف أن الكفر أنواع وليس نوعًا واحدًا، وهكذا.
  4. النظر إلى المسائل من خلال نص واحد دون النظر إلى مجموع النصوص التي يكمل بعضها بعضًا، ولا يكتمل الحكم إلا بها، وهذا مبحث كبير في الأصول والمصطلح اسمه: التعارض والترجيح، وهو من أهمِّ الأبواب التي يجب تعلمها، ومن يحكم على المسائل العلمية دون النظر إلى ذلك فقد ضلَّ وأضل، وما حصل من الشذوذات إلا وهذا من أهم أبوابه.
  5. ردود الأفعال وبخاصة تجاه النفس، فعندما يرتكب الإنسان بعض المعاصي ويقع في بعض الذنوب وينغمس فيها، ثم يمن الله سبحانه وتعالى عليه بالتوبة، يظنُّ أنه لا يكفر إلا الطرف الآخر، فينظر إلى الأمور بنظرة حادة تقوده إلى تضييق الأحكام على نفسه أو على الآخرين.

أحسب يا صاحبي أن هذه جملة من الأسباب التي أدت إلى الوقوع بهذا المنهج، وقد ضاق الوقت عن إكمال ما يتعلق بالمنهج المقابل، ولعله في لقاء آخر بإذن الله سبحانه وتعالى، استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، ونلتقي على خير بإذن الله تعالى.

ولكم تحياتي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحلقة (3)

قال لي صاحبي: عجبًا مما ذكرت في مسامراتنا السابقة، وما أشرت إليه من معالم ذاك المنهج الغالي، وعندما تأملت ما ذكرت تصورت خطورة هذا المنهج على الفرد، والمجتمع، بل على الدين نفسه، ولا أكتمك سرًّا، بل فيه اتهام لله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ أنهما لم يبلغا الدين للناس على الوجه الصحيح، والله جل وعلا قال في مُحكم التنزيل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]، والرَّسول ﷺ قال في الحديث الصحيح: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ولكن مع مواصلة تأملاتي فيما ذكرت خطرت لي خواطر متعددة في معالجة هذا المنهج، فهلا استمعت لي وقوَّمت ما أذكره، فقد سجلت عددًا من النقاط من زوايا مختلفة كزاوية الشباب أنفسهم، وزاوية العلماء والدعاة والمفكرين، وزاوية أولياء الأمور من آباء وأمهات، وإخوة وأخوات، وزاوية المؤسسات التربوية وغيرها، ولعلي لا أطيل لكي أستمع إلى تقويمك إياها.

أما المعالجة عن طريق الشباب أنفسهم فأذكرها في النقاط الآتية:

  1. لا شكَّ أنَّ الله سبحانه وتعالى كلَّف الإنسان منذ بلوغه سن التكليف، الذي سيسأله الله عنه، وسيحاسبه عليه، وبناءً عليه: على هذا الإنسان أن يحرص على إعداد الجواب الصحيح لهذه المحاسبة، ومن أهمها عبادة الله تعالى على بصيرة، فمن أهم معالم مسيرة الحياة الصحيحة، والمستقيمة والمنجية في الدنيا والآخرة، العمل الصحيح المبني على الحرص على الاقتداء بالنبي ﷺ بعد تحرير العبادة لله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وتجريده من جميع النوايا الأخرى، وقد أكَّد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
  2. ومن أهمِّ معالم المنهج الصحيح: التعليم، والمقصود به طلب العلم الشرعي الصحيح من أهله، فالدين بني على العلم، والنجاة في الدنيا والآخرة بنيت على العلم، وخشية الله تعالى بنيت على العلم، ولست بحاجة هنا إلى أن أستفيض في ذكر النصوص القرآنية والنبوية في بيان أهمية العلم وضرورته وحاجة الفرد والمجتمع إليه أشد من حاجة الطعام والشراب، ولكن أشير هنا إلى مسألة في بيان أهمية العلم أنه بني على التلقي، فالله جل وعلا لقنه جبريل عليه السلام، وجبريل عليه السلام لقنه محمدًا ﷺ، ونبينا محمد ﷺ لقنه وعلَّمه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهكذا يتناقل العلم من جيل إلى جيل فهو ميراث الأنبياء والمرسلين: «العلماء ورثة الأنبياء»، وعليه فمن أراد السير على المنهج الصحيح فليلزم العلم الصحيح، الذي يُتَلَقَّى عن أهله المعروفين بالعلم، وتلقوه جيلًا بعد جيل.
  3. ومن معالم المنهج الصحيح إدراك القواعد الصحيحة في مسائل الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا شكَّ أنَّ الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين العليا، وصمام الأمان للأفراد والمجتمعات، وبه سبيل النجاة لسفينة المجتمع كله، وله من الفضائل والمزايا ما يجل عن الحصر، ولكن ليعلم أن الدعوة لا تكون صحيحة إلَّا إذا كانت وفق منهج صحيح مبني على الكتاب والسُّنة كما مثلها النبي ﷺ، فليتعلم الشاب وطالب العلم هذه القواعد ليسير في مناهج صحيحة.
  4. من أهمِّ مقررات المنهج الصحيح للشاب المسلم حرصه على العواصم من القواصم والمخارج من الفتن، ومن أهمها الحرص على الجماعة وعدم الشذوذ والفرقة، فيد الله سبحانه وتعالى مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وهذه الجماعة هي المجتمعة على ولي الأمر من العلماء والأمراء كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله ﷺ.
  5. أما خامس المعالم ولعلي أختم بها للشاب المسلم أن يدرك حسن منهجية التعامل مع الله تعالى، ثم مع نفسه، ومع أهله ومع علمائه، ومع الناس عمومًا مسلمين وغير مسلمين، فالإسلام دين المنهجية الصحيحة المبنية على العقيدة الصافية والشريعة الواضحة النقية، والأخلاق العالية الزكية، وكلها ترسم منهجية التعامل الذي يجب أن يتعلمه الشاب ويتفقهه ويترجمه لواقعه العملي.

ولعلِّي بعد ذلك أنطلق إلى نقاط المعالجة من زاوية العلماء والدعاة والمفكرين، لألخصها فيما يلي:

  1. واجب العلماء والدعاة واجب عظيم ائتمنهم الله تعالى على حمل هذه الرسالة العظيمة، وأمرهم بتبليغها ونشرها ورتب على ذلك الأجر العظيم، والرفعة في الدنيا والآخرة، ومن عناصر هذه الأمانة نشر ما تحملوه، ومعالجة كل ظاهرة تحرف الناس عن مسار الدين الصحيح، ومن الظواهر التي تحتاج إلى معالجة هذه الظاهرة ظاهرة الغلو الموصل للتكفير، ومن ثم إلى التفجير والتدمير، وعليه فأول الواجبات استشعار هذه الظاهرة، وتصورها، وتصور خطرها، ووضع الوسائل المناسبة لمعالجتها، والقدوة ﷺ أوَّل من قام خطيبًا لما ظهرت هذه البادرة في مجتمعه فقال ﷺ: «ما بال أقوام…»، ثم ذكر مقالته، وختم بقوله ﷺ: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
  2. تلقي الشباب والطلاب بكل رحابة صدر وتحمل، ليلقوا ما لديهم من أسئلة واستفسارات، ومشكلات وقضايا، فإن لم يتم ذلك ذهب هؤلاء إلى الطرق المجهولة فضَلُّوا وأضَلُّوا.
  3. محاورة هؤلاء وغيرهم بالتي هي أحسن كما أمر الله تعالى وكما فعل رسوله ﷺ.
  4. تناول القضايا كتابة وخطابة وتدريسًا بشيء من التفصيل والبيان، فلكل زمان قضاياه ومشكلاته وفتنه التي تحتاج إلى شيء من التفصيل مع الحِكمة في العرض فلكل مقام مقال.
  5. التعاون مع هؤلاء الشباب فيما ينفعهم وإشغالهم بما يفيد وتكليفهم بما يرفع من مستواهم، وتشجيعهم على الإيجابي والمفيد، وتجنب التقريع والتوبيخ لما ينتج من عواقب غير سليمة، جزى الله تعالى علماءنا كل خير على جهودهم وسددهم وأعلى مقامهم.

وما قلته في حقِّ العلماء والدُّعاة الربانيين يُقال في حق المؤسسات التعليمية والتربوية ممثلة في رجالها المخلصين العاملين، ويضاف إليه: تكريس المناشط النافعة التي يملأ فيها الشباب أوقاتهم، ويبصرون بها طريقهم، وتقويم هذه المناشط بين فترة وأخرى، والاستفادة من طاقتهم في مثل حفظ القرآن الكريم، ودراسة تفسيره، وحفظ شيء من السُّنة النبوية ودراسة شيء من شرحها، ولعلي أشيد هنا بما تقوم به وزارة الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية أو تشرف عليه من مناشط في تحفيظ القرآن الكريم والدورات العلمية، والمحاضرات، والمكاتب الدعوية، والمخيمات متعددة المناشط، وغيرها، وكذا ما تقوم به بقية المؤسسات التربوية والتعلمية، فجزاهم الله خيرًا ونفع بهذه الجهود.

ولعلي أختم بالتذكير في عظم مسؤولية الآباء والأمهات وأولياء الأمور سريعا بما يلي؛ لعله يسهم في الوقاية من الوقوع في هذه الظواهر أو معالجتها إذا وقعت:

  1. استشعار عِظَم مسؤولية التربية.
  2. العيش مع مشاعر أبنائهم الإيجابية والسلبية فتفَعَّل الإيجابيات، وتعالَج السلبيات.
  3. وضع البرامج المناسبة لكل منهم.
  4. استشعار الأبناء والبنات والإخوة والأخوات الاهتمام بهم.
  5. وضع الحوافز لما يقومون به من إيجابيات.
  6. معرفة معلميهم والتعاون معهم، ومعرفة أصدقائهم وما يتبادلونه من أفكار.
  7. عدم تهميشهم في مسار حياتهم، ومشاورتهم فيما يخصهم ولو كان أمرًا يسيرًا.
  8. التعليق على الظواهر في المجتمع واستلهام آرائهم.
  9. دراسة ما يطرحون من آراء، ومناقشتهم فيها.
  10. تهيئة الجو المناسب لمناشطهم، وما يحققون به مواهبهم.
  11. الدعاء لهم بالصلاح والهداية والتوفيق.

وبعد: فلعلي أطلت عليك بعض الشيء، ولكني حريص على أن أستفيد من تقويمك.

قلت: بارك الله فيك، وهذه دراسة متأمل فعلًا، وأفدت وأجدت فلعلها تجد آذانًا مصغية لتستفيد مما ذكرت، وأعدك بمواصلة المحاورة في المنهج المقابل.

سدد الله الخطى وبارك في الجهود.

وإلى لقاء آخر، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلقة (4)

قلت لصاحبي: ها قد رجعنا من الحج والحمد لله، فنسأل الله تعالى أن يتقبل من الحجاج حجهم، وأن يثيب القائمين على خدمة الحجاج من مسؤولين وأفراد ومؤسسات حكومية وغير حكومية، فجزاهم الله سبحانه وتعالى خير الجزاء، وأجزل لهم الأجر، وأخلف عليهم ما أنفقوه من جهد ومال، إنه سميع قريب.

وماذا لديك يا صاحبي بعد العودة والاستقرار؟ قال: لقد وعدتني أن نكمل ما وقفنا عليه في آخر لقاء، عندما تحدثنا عن علاج ذلك المنهج الذي سلكه بعضهم في النظر إلى السُّنة من وجه ضيق، فضيقوا على أنفسهم وضيقوا على غيرهم، ولعلَّك تحدثنا عن المنهج المقابل، ما مظاهره؟ وما مقتضاه؟ وما أسباب الوقوع فيه؟ وما العلاج؟

قلت: نعم. ولعلي أوجز، فقد أكثرت عليك الكلام، فهذا المنهج مقابل لذلك المنهج، ينظر إلى نصوص السُّنة النبوية نظرة غير منضبطة، ويزعم أنه ينطلق من القرآن الكريم، ويفسر نصوص القرآن والسُّنة، يزعم بما يتفق مع عقله، ويتخذ بعض قواعد الشريعة -على إطلاقها- منطلقًا لكل تأويل، مستخدمًا بعض المصطلحات التي قد تلتبس على أنصاف المتعلمين؛ ولذا فمن أعظم مظاهر هذا المنهج ما يلي:

  1. الاتكاء على القرآن الكريم وإهمال السُّنة النبوية، ولا شكَّ أنهم يختلفون هنا؛ فمنهم من ينكر السُّنة بالكلية، ومنهم من ينكر شيئًا منها، كمن ينكر ما يثبت منها بطريق الآحاد، أو ينكر ما لا يصلح له، أو ما لا يتفق مع عقله.
  2. الجرأة في القدح في السُّنة ولو ثبتت ثبوتًا صحيحًا لا يتطرق إليه الشكُّ، فإن لم يجدوا سبيلًا للقدح فيها لجؤوا إلى التأويل، ولا شكَّ أنَّ السُّنة ولله الحمد محفوظة، فلذلك يلجؤون إلى التأويل الفاسد الذي لا دليل عليه، ومثاله حديث: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة»، فكانوا يقدحون في صحته مع أنه لا شكَّ في صحته، فلما تبين ذلك وأصبحت الحجة ضعيفة لجؤوا إلى التأويل الفاسد، وقالوا: هذا خاص بزمن الرسول ﷺ، بينما لا يوجد أي دليل أو قرينة على الخصوصية، بل ولا تسعف هذا التأويل قواعد اللغة العربية.
  3. الجرأة في القدح بكبار العلماء من السلف أو الخلف، وتفوح عبارتهم بهذا مثل قولهم: «لا قداسة لأحد»، «الدين ليس حكرًا على أحد»، «لهم رأيهم ولي رأي»، «نحن نفسر النصوص بمقتضى العصر»، وغيرها من العبارات إلى حد أنه مهما كان العالم في نظرهم، فقولهم مثل قول آحاد الناس الذين لا يفقهون من العلم الشرعي شيئًا، فهم يقدحون بمن زكاهم الله تعالى في كتابه في مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الزمر: 9]، وزكاهم الرسول ﷺ في مثل قوله: «العلماء ورثة الأنبياء».
  4. ادعاؤهم إعمال العقل، فما ثبت بالعقل -زعموا- أثبتوه، وما لم يثبت بالعقل نفوه وإن جاء في القرآن الكريم، أو السُّنة النبوية، فجعلوا العقل حاكمًا على القرآن أو السُّنة، وهذه تُكأة اتكأ عليها أسلافهم من المعتزلة وغيرهم فضَلُّوا وأضَلُّوا، فأنكروا كثيرًا من المسلَّمات الشرعية، وأنكروا كثيرًا من النصوص وردُّوها، وقضية العقل لعلنا نتناولها تفصيلًا في وقت آخر لكن المقصود هنا بيان مظهر من مظاهر هذا المنهج.

هذه التي ذكرناها أبرز مظاهر هذا المنهج، وبلا شك سيخلف آثارًا خطيرة، منها ما يلي:

  1. إلغاء المرجعية العلمية الشرعية أو إضعافها، وأنها ليست حاكمة على الناس؛ بل الذي يحكم عليها هو العقل والهوى والمصالح الذاتية للأفراد.
  2. التخبط والضياع، فلا رابط ولا ضابط، فتصبح هذه الأمة في ذيل القائمة، وتابعة لا متبوعة، وكأن ما تعيشه الأمة المسلمة اليوم من التخلف في كثير من ميادين الحياة، بسبب تمسكها بالكتاب والسُّنة، وما علم هؤلاء وأولئك أنَّ أهم عوامل الذل والتبعية بُعد هذه الأمة عن مصدر عزها وقوتها، وهو الكتاب والسُّنة.
  3. اتهام الله تعالى ورسوله ﷺ بعدم تبليغ المنهج الصحيح الذي فيه سعادة الأمة وطمأنينتها، وأمنها ورخاؤها، والله جل وعلا قد قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]، وهؤلاء يقولون: لم يتم بعد، فهذا العصر عصر تفتق المعرفة، فتلك النصوص لا تصلح إلا لذلك الزمن، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
  4. ومنها: إلغاء تراث الأمة الذي ضُبطت به الشريعة، وسُطرت، وبانت، واتضحت، وهي مفخرة من المفاخر، فيُلغى التفسير وأصوله، والحديث وعلومه، والفقه وقواعده، وأصوله، وقواعد العربية، وتاريخ الأمة، وأدبها، فهل يمكن العبث بمثل هذا؟

لعلِّي أكتفي بذكر هذه الآثار والمقتطفات التي يكفي واحد منها لبيان فساد هذا المنهج فضلًا على اجتماعها.

ولعلَّك تسأل عن أهمِّ الأسباب التي أوصلت إلى هذا القول الجريء. ولعلَّك أيضًا لا تستغرب عندما أقول لك: إنَّ الأسباب هي الأسباب التي أدت إلى المنهج السابق المقابل له من الجهل، والتعالم، وتقليد الآخر، وتقديس العقل، والبُعد عن المرجعية العلمية، والأنا، وضعف الإيمان بالله تعالى. وضعف الثقة بما أنزل على رسوله ﷺ، وضعف الثقة بموعوده، والانهزام النفسي، وضعف الواقع من الداخل وضغط الواقع من الخارج، وغيرها مما لا مجال لتفصيله في مثل هذه العجالة.

أما العلاج، ففي النقاط نفسها في معالجة المنهج السابق فيما لا حاجة إلى إعادة ذكره.

قال صاحبي: جزاك الله خيرًا، وأشعر أنني أخذت من وقتك كثيرًا، غير أن هذه المجالسات قد تفيد أناسًا كثيرين.

أسأل الله تعالى أن يدلنا جميعًا على الخير؛ إنه سميع مجيب، وفَّق الله الجميع لما يُحب ويرضى.

وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.