
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذا ملخص لأهمِّ المحاور التي يدور حولها بحث «فقه التعامل مع المخالف» المقدم إلى الملتقى الثقافي الخامس الذي سيعقد تحت عنوان «فكر الجيل من أين؟ وإلى أين؟»:
أهمية الاتفاق:
قبل الولوج في موضوع الخلاف وأقسامه ومتى نختلف ومتى نتفق، لا بد من بيان أهمية الاتفاق، لما يترتب على ذلك من مصالح ومنافع للأمة، وهو الأمر الذي حثَّ عليه كتاب الله ﷻ وسنة نبيه ﷺ، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ﴾ [آل عمران: 103].
ويقول النبي ﷺ: «إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
ولعلَّ من أهمِّ مظاهر الاتفاق أنه جُعل مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، وهو الإجماع الذي هو: اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد ﷺ على أمر شرعي.
سنة اللـه سبحانه وتعالى في الخلاف البشري:
الخلاف بين البشر سُنةٌ كونيةٌ، لأنَّ الله تعالى قد خلق الناس مختلفين في ألوانهم وأشكالهم ومعارفهم وقدراتهم ومهاراتهم، وكلها آيات منه جل وعلا ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وقال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 48].
فالاختلاف في العقول والإدراك والقدرة يؤدي بصورة تلقائية إلى ظهور الخلاف في الرأي والنظرة والتفسير والتحليل وهو ما عبَّر عنه جل وعلا بقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ۞ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118 – 119].
المراد بالمخالف:
المخالف هو الذي يسلك نهجًا معينًا في الحياة يغاير منهج الآخرين، مما يؤدي بعد ذلك إلى اختلاف في الأحكام والتصورات.
مبدأ الحوار في الإسلام:
الذي جاء في الحث عليه واتباعه نصوص كثيرة، منها:
- الدعوة إلى محاورة أهل الكتاب كما في قوله تعالى:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].
- الحوار الذي دار بين الله تعالى وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام حين طلب من ربه سبحانه وتعالى أن يريَه كيف يحيي الموتى، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].
- الحوار الذي دار بين الله تعالى وموسى عَلَيْهِ السَّلَام حين طلب رؤية ربه، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].
- الحوار الذي دار بين صاحب الجنتين وصاحبه في سورة الكهف، بقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا۞ لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 37 – 38].
أقسام المخالف:
أولاً: المسلم المجتهد (أو العالم):
وهو الذي لديه من العلم الشرعي ما يمكنه من استنباط الأحكام من أدلتها، ويكون الحوار معه من خلال النقاط التالية:
- أن يكون الحوار من عالم مثله، فلا يجوز أن يحاوره من هو أقلُّ منه علمًا ودرايةً.
- أن يكون الباعث على الحوار الإخلاص، فلا يكون منطلقًا من هوى أو بغض لهذا العالم.
- ألا يمس الحوار عرضه الشخصي، فهذه غيبة محرمة.
- أن يكون الحوار نصيحة لهذا العالم، بقصد التصحيح والبيان.
- ألا يكون الحوار فاحشًا فوق خطئه.
- إذا كان الحوار لمسألة علميَّة يكون باختيار الألفاظ الحسنة، وتجنب الترجيح واتهام النوايا.
ثانيًا: المسلم العاصي:
ومشكلة مخالفة هذا الصنف تكمن في اتباع الهوى والشهوات، والابتعاد عن منهج الله سبحانه وتعالى وأحكامه في حياتهم، والحوار مع هذا الصنف يكون بتذكيرهم بواقعهم وأعمالهم وما يترتب على ذلك من خسران في الدنيا والآخرة، بالترغيب والترهيب، بحسب الحال الذي هو فيه. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ۞ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلۡعَذَابُ ٱلۡأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49 – 50].
ثالثًا: المعاهد:
وهو الذي بينه وبين المسلمين عهدٌ وميثاقٌ سواء كان في داخل الدولة الإسلامية أو في خارجها، والحوار معهم يكون بالحُسنى واللِّين، لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].
رابعًا: المستأمن:
وهو من طلب الأمان من المسلمين لمدة محددة، بشرط أن يخضعوا لأحكام الإسلام في داخل الدولة الإسلامية، من إعطاء الجزية وغيرها، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6].
الأمور التي لا يجوز الاختلاف فيها:
الأمور التي لا يجوز الخلاف فيها منها ما يلي:
- أصول الاعتقاد والعبادات: لا يجوز الحوار أو النقاش حول نفي ركن من أركان الإيمان أو الإسلام، من: إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشرِّه، وكذلك في أركان الإسلام من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. فهذه خطوط عقدية لا يجوز الاختلاف فيها قطعًا، لأنَّ الشكَّ في وجودها يعدُّ كفرًا.
- ما كان الخلاف فيه شاذًّا أو غير معتبر.
- ما كان إجماعًا لأهل العلم السابقين مع الدليل: فلا يجوز مخالفة أمر أجمع عليه علماء الأمة من أهل العلم والاجتهاد، لقوله ﷺ: «لا تجتمع أمتي على خطأ».
الأمور التي يجوز الاختلاف فيها:
أما ميادين الاختلاف المسموح بها فتكون مع الفروع التي لا يترتب عليها خدش عقدي أو نفي لما عُلم من الدين بالضرورة.
وهذه بعض الضوابط والآداب التي يجب اتباعها في الحوار:
- الوصول إلى الحق: لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾ [آل عمران: 64]. ويقول عمر رضي اللَّهُ عَنْهُ: «ما حاججت أحدًا إلَّا وتمنيت أن يكون الحق على لسانه».
- الهدوء في الحديث: لقول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في حديث الرسول ﷺ: «كان يحدث حديثًا لو عَدَّه العادُّ لأحصاه»، وكذلك وصية لقمان كما حكى القرآن: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19].
- الابتعاد عن الجدال المفضي إلى الخصام: لقوله ﷺ: «ما ضلَّ قوم بعد هُدًى كانوا عليه إلَّا أوتوا الجدل».
- تجنب السباب والشتائم: لقوله ﷺ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»
- إظهار الحب للآخرين وتمني الخير لهم: لقوله ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
- التواضع في التعامل: كما أوصى به لقمان ابنه: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [لقمان: 18].
- عدم الاستهزاء والسخرية: لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ﴾ [الحجرات: 11].
- البُعد عن الظن: قال النبي ﷺ: «إيَّاكم والظنّ فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث».
- عدم تخويف الناس: لقوله ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإنَّ الملائكة تلعنه، وإنْ كان أخاه لأبيه وأمه». وغيرها من الضوابط والآداب التي يجب انتهاجها في الحوار مع المخالفين.
فوائد الخلاف الذي وقع بين العلماء:
إنَّ الخلاف الذي وقع بين علماء الأمة في الفروع دون الأصول أثرى الفقه الإسلامي وجعله مرنًا يتوافق مع كل زمان ومكان، ويراعي أحوال الناس المختلفة، حيث يرفع عنهم المشقة والحرج، لا سيما في العبادات، مثل نسك الحج، حيث إنَّ في كثير من أحكامه تباينًا بين علماء الأمة مما جعل الناس يؤدون هذا الركن بأريحية ويسر، فلو لم يكن هناك اختلاف واجتهاد في أفعال هذا الركن لجلب على الحجاج مآسي ومشكلات لا نهاية لها.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...