
يكثر الحديث بين فينة وأخرى -كتابة ولقاءات إعلامية وندوات وحوارات- حول الخلاف والتعامل معه، ويزداد الحديث عن وجود حدث أو مناسبة شرعية يختلف الناس حولها، وتتكاثر أسئلة العامة، وتتنوع مواقف طلاب العلم في الحُكم عليها والتعامل معها.
وقد كتب العلماء قديمًا وحديثًا في الخلاف في القضايا الشرعية، فهناك من كَتَب في الخلاف عند المفسرين، وآخرون كتبوا في الخلاف عند المحدثين، وعند الفقهاء، وعند علماء العقيدة والمذاهب وغيرها.
وفي هذا الوقت وبالتحديد بعد الأزمات والفتن التي تلاحقت منذ دخول القرن الخامس عشر الهجري علت نبرة الحديث عن الخلاف حتى كأنك تسمع وتقرأ للجميع -وأقصد من يتعاطى القلم والكلام- ولا تعلم مَن المخاطب؟ لأنَّ الجميع يتفق في الجملة على عدة قضايا أساسية في الموضوع نفسه، ذلك بأنَّ الخلاف سُنة بشرية كونية والناس متفاوتون في عقولهم وفي نظراتهم للأشياء، وتعاملهم مع الأمور الحياتية، ومما يتفقون عليه: وجود الخلاف في بعض القضايا الشرعية واختلاف أهل العلم فيها قديمًا وحديثًا، وأن المخالف معذور ما دام يعتمد على دليل، ومن المتفق عليه: ضرورة التأدب بآداب الخلاف من صدق النية، وحسن الظن، وعدم كيل الاتهامات، واحترام المخالف، واحترام رأيه، وحمله على المحامل الحسنة، وعدم فرض الرأي، وأنَّ أهم الطرق لحل الخلاف الحوار، بآدابه.
كل هذه وغيرها من المتفق عليه فلا تكاد تقرأ لكاتب أو تسمع لآخر من يخالف هذا نظريًّا مطلقًا فلا أحد يرى خبث الطوية، وسوء الظن، والتدليس، والقول بالباطل وأمثالها آدابًا للتعامل مع الخلاف، أو في الحوار.
بيد أن محل التأمل والنظر والمراجعة -في نظري- أمران أساسيان، أحاول أن أفصِّل فيهما بعض التفصيل بما يناسب المقال:
الأول: طرق الموضوع مع إغفال عناصر مهمة كُلِّية وجزئيَّة فيه، أو اختصارها. ومن ثَمَّ تؤثر في الخلاصات والنتائج، وقد يكون لها بعض الآثار السلبية عند تناول الموضوع.
الثاني: في تناول الطرائق العملية عند خوض معترك الخلاف -كتابة وحديثًا- مما يخلف بعض الآثار السلبية.
ولعلي قبل الدخول في هذين الأمرين أستبيح القارئ عذرًا أن أكون صريحًا بعض الشيء ليتجلى ما أردت من هذا المقال، ولعلَّه يُسهم في البناء الإيجابي في هذه المسألة كثرة الدوائر والحلقات التي قد تنفك في بعض الأحوال، وأعود لما أردت؛ وأبدأ بالأمر الأول مما يحتاج إلى مراجعة وتأمل، وهو: طرق الموضوع والحديث عنه مع إغفال عناصر مهمة، وذلك إما لظن الكاتب أو المتحدث أنها معلومة سلفًا، أو أنها من المسلَّمات التي لا تُجهل، أو أنها ليست محل إشكال، أو رغبة في الاختصار وعدم التطويل، أو أن تقديره أنها خارج البحث أو غير ذلك.
ومن هنا أسجَّل ما أراه من هذه العناصر أو النقاط مع غيرها في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى:
الأصل في هذا الدين أنه يدعو للاجتماع وعدم التفرق، بل جَعَل هذا الاجتماع مقصدًا من المقاصد الشرعية، يؤثر في الأحكام الشرعية، جاء التأكيد على هذا الأصل في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول ﷺ، وفي المعقول والنظر. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، وقال ﷺ فيما رواه مسلم وغيره: «إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أنْ تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». ولا شكَّ أنَّ العقول السليمة تدرك أهمية الاجتماع والاتفاق، والوحدة، والتكاتف، والتعاون، وكل ما يدل على ذلك أو يؤدي إليه.
ومن هنا جاء التأكيد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ على النهي عن الفُرقة والنزاع والشقاق، قال ﷻ: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] وقال سبحانه: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
إنَّ مقتضى ما سبق يؤكد على هذا الأصل العظيم، والمقصد الأسمى، ومن هنا عَظُم أمر: «الإجماع» في الشريعة وجُعِل مصدرًا من مصادر التشريع، بل جُعِل مصدرًا قطعيًّا.
وبناءً على ذلك فالتفرق والاختلاف الذي يخرق هذا الأصل مذموم، وبناءً على ذلك أيضًا من الخير تكثيف البحث عن عوامل الاجتماع، ومادة الاجتماع، والحرص عليها، والتواصي عليها والتأكيد على مفرداتها، ومقرراتها.
كل كذلك:
- للتعبد لله عَزَّ وَجَلَّ بهذا المأمور به وطلب المثوبة عليه.
- لتبقى آثاره الإيجابية من قوة التماسك وكذلك العزة وسلامة القلوب.
- ليكون البحث بعد ذلك عن الخلاف في موقفه الصحيح الذي يؤثر إيجابيًّا، ويكون عامل بناء وتقدم، وليس عامل تفرق وشقاق فيخلف آثارًا سلبية أقلها شنآن القلوب، والغمز واللمز.
الوقفة الثانية:
هنا يَرِدُ السؤال، وهو سؤال جوهري وفي المسار نفسه هل من المعقول أن يُجتمع على كل شيء؟ وما الذي يُجتمع عليه؟ وبلا شك هذا سؤال يحتاج إلى ندوات ومؤتمرات ولقاءات وحوارات أهم من لقاءات الخلاف، ليتضح لنا عمق الشريعة وحرصها على أنَّ أهم منطلقات الخلاف هو التأكيد على ما يجتمع عليه والانطلاق منه.
ومن المسلَّمات التي يجتمع عليها في هذه الحياة بين المسلمين وبدون تفصيل:
- مراتب الدين الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
- أركان الإسلام بما جاءت مفصلة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنة رسوله ﷺ.
- أركان الإيمان كذلك بما جاءت مفصلة في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله ﷺ.
- مصادر الشريعة المُجمَع عليها، وهي: الكِتاب والسُّنة والإجماع والقياس.
- المقاصد الشرعية الكبرى ومنها: حفظ الضرورات الخمس: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنسب.
- العقل مصدر للمعرفة وبه فُضِّل الإنسان، لكنه ليس حاكمًا على الدين، فالدين مبني على التلقي والاستسلام.
- العبادة الصحيحة مبنية على أسس ثلاثة:
– الإيمان بالله.
- الإخلاص له.
- الاهتداء بهدي محمد ﷺ. - الدين مبنى على التلقي من الوحي، والاستسلام لله سبحانه وعدم تحكيم الأهواء والمزاج والعقول المجردة.
- العبادات المباشرة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والدعاء والاستغاثة والاستغفار وغيرها توقيفية، لا يُعمل بأي منها إلا بناءً على دليل من كِتاب الله وسُنة رسوله ﷺ.
- الأصل في المعاملات المالية والأطعمة والأشربة الإباحة، إلا ما دلَّ الدليل على تحريمه، فبينت الشريعة قواعد ذلك.
- الأصل في الإبضاع التحريم.
- من مقاصد الدين: التعامل مع الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم بالخُلق الكريم، وهو ما أمر به الشرع، وكل ما يضاده نهى عن الشرع.
- الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من مقاصد الدين العظمى.
- الاجتماع على ولي الأمر وعدم الخروج عليه، وطاعته بالمعروف من أهم ركائز سلامة المجتمع وأمنه وتقدمه ورقيه.
- العلماء الشرعيون هم المبلِّغون عما جاء في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله ﷺ، وهم العارفون بهما والشارحون لما جاء فيهما.
هذا غيض من فيض ولله الحمد، وغيرها كثير من مسلَّمات العقيدة، ومسلَّمات العبادة ومسلَّمات التشريع والأخلاق، ومثال ذلك كثير من أحكام الصلاة، من شروط وأركان، بل ومن واجبات، فسجود السهو مثلًا لا يخالف فيه أحد، إنما الخلاف في وضعه قبل السلام أو بعده وداعيه من الزيادة والنقص والشك، وقلَّ مثل ذلك في أحكام الزكاة، والصيام، والحج والعمرة، وقلَّ مثل ذلك في القيم والأخلاق وتفاصيلها. أقول: هذه المسلمات التي تغيب عن كثير من المسلمين مثقفين ومتعلمين وغير متعلمين وقد يجهلون شيئًا من التفاصيل فيها فلكل مقام مقال، بحاجة إلى استظهار وجلاء وبيان عند الحديث عن الخلاف. ولإجلاء الأمر أُمَثِّل بمثال يتطرق إليه بعض المتحدثين في مسائل الخلاف عند الكلام عن أحكام الصلاة، فيتحدثون عن كفر تارك الصلاة، ثم يجره الحديث بقصد أو بغير قصد إلى القفز على هذه المسألة متحمسًا لرأي على آخر ومن ثَمَّ قد يُفهم ما لا يراد فهمه.
والذي أدعو إليه -وبخاصة في الحديث مع المجتمع بعامة- قبل الولوج في هذه المسألة وتفصيلها وذكر الخلاف: أن يمهد بالمُجمع عليه، والذي يجتمع عليه الجميع، ومن ذلك:
- ذكر أهمية الصلاة، وخطورة تركها.
- بيان الإجماع فيمن تركها جاحدًا لوجوبها.
- بيان محل الخلاف، وسوقه مع أدلته الشرعية ثم الترجيح من بيان سببه.
- بيان ما يترتب على الخلاف من آثار عملية.
هنا تعطَى المسألة حقها ولا أعتقد لمن يسمع ذلك يبقى في نفسه أمر يسوِّل له التهاون بالصلاة. والمهم: وضع الخلاف في موضعه الصحيح فأدَّى ذكر المجمع عليه آثاره الإيجابية في اعتقاد المسلم وعمله. وبناء عليه يدرك القارئ أو المستمع أنَّ مساحة المجمع عليه والواضح، كبيرة وواسعة، لا أن يقفز ذهنه إلى أن ديننا دين الخلاف فيقع في تردد وتشكك في تعبده لله ﷻ كما يسمع من كثير من العامة في هذا الوقت.
الوقفة الثالثة:
خلق الله سبحانه وتعالى الناس متفاوتين في خلقهم، ومداركهم، وعقولهم، وطرائق معيشتهم، ونظرتهم إلى الأشياء وقدراتهم، ومواهبهم، وسعيهم في هذه الحياة، وأهدافهم الدنيوية.
ومن حكمته جل وعلا أنه لم يضيق على الناس في هذا التفاوت في أي أمر من الأمور، بل جعلهم ينطلقون في هذه الحياة وشعبها لكن وفق ضوابط ومعالم، يجب ألا يخرجوا عنها فيختل نظام الكون، ولذا جعل سبحانه ترابطًا بين جزئيات من الكون وبين عمل الإنسان، وتأكد هذا المعنى في كتاب الله تعالى في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، بل أبعد من هذا جُعلت المعيشة الطيبة، والنماء والازدهار، وعمارة الكون بما يصلحه هدفًا من أهداف وجود الإنسان في هذه الحياة، قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]، وبناءً على ذلك أُمر الإنسان بأن يعمل بمقتضى ما يُصلح الكون ويعمره كما في الآية السابقة، وهذه العمارة يمكن أن تزدهر وتنمو مع تلك الاختلافات بين البشر، كلٌّ يُسهم بحسب ما منحه الله جل وعلا من القدرات والفهوم والإمكانات ما دام أنه يعمل وفق المعالم التي رسمت له.
ومن أهم هذه المعالم:
- التعبد لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
- العمل وفق ما جاء عن رسول الله ﷺ.
- ألا يكون العمل متعارضًا مع سُنة الله جل وعلا في خلقه للكون كأن يسعى الإنسان إلى إفساد شيء من الكون.
- أن يكون الهدف الأكبر هو الآخرة، والهدف الأقرب هو عمارة الدنيا، قال سبحانه في قصة قارون: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].
وهذا كله لا غبار عليه وأعتقد أنه من مجالات الاتفاق على الأقل بين المسلمين، ولكنها من المقدمات المهمة عندما تُدرس مسائل الخلاف، أي خلاف كان. إذا عُلِم هذا ندرك الخلط بين مقولتين:
- أن بعض علمائنا لا يجعلون مساحة للرأي الآخر، ويتعاملون بالرأي الواحد، ويقصون الرأي الآخر، معلنين رفض تعددية الفكر، إلخ، مما يستعمل في فهم الخطاب الديني لديهم كما يرون.
- المقولة الثانية: ما يفهمه بعضهم أن أهل العلم يطالبون بألا يتحدث أحد مطلقًا حتى ولو كان في القضايا الحياتية والمعاشية.
ولا شكَّ أن تلك المقولتين من معضلات هذا العصر لمن لم يكن له حظ من العلم والثقافة، مع التأمل والنظر وعدم العجلة.
والذي يظهر لي أنَّ الإشكال كما أشرت هو في الخلط بين تلك المقولتين، وعدم تحرير محل النزاع.
والذي جرَّ إلى هذا الخلط هو ما أشرت إليه في مقدمة هذه الوقفة من تضييق محل النظر، وجعل القضايا الحياتية كلها في سلَّة واحدة.
وفي حال استعمال تفكيك القضايا نجد أنه لا تعارض متضادًّا بين المقولتين إلا في حال ذاك الفهم الخطأ للمسألة.
ويجب أن نفهم ما يلي:
- أنَّ الله تعالى خلق الكون بتلك المساحة العريضة وجعل الإنسان يتأمل في هذا الكون وأمره بالتفكر وعلَّمنا أن مساحة الرأي في كثير من القضايا مساحة واسعة تتسع لكل تخصص أن يبحر فيها، وينفع نفسه، بل وينفع البشرية كلها، وفي حال استخدام هذا الأمر سنجد أن أي دولة أو مجتمع أو جنس أو فرد يتجه نحو البناء والتنمية، وعمارة الكون، وإسعاد النفس والمجتمع، وهذا لا غبار عليه، فكل فرد عليه أن يدلي بدلوه، ولا أحد يستطيع أن يقصيه، ولا أن يرفض رأيه إلا بحجة، ولا أبالغ إذا قلت هذا من عظمة هذا الدين، ومن سماحته، ومن عوامل استمراره.
- إنَّ من فضل الله جل وعلا أن تَعَبُّده في هذه الحياة وفق عبادة محكومة بأصول وتشريعات، لم يرضَ سبحانه للبشر أن يستنبطوها، بل أنزل فيها كتبًا، وأرسل رسلًا ليبلغوها إلى الناس. وهذه الأمة أرسَلَ إليها محمدًا ﷺ، وأوحى إليه عن طريق جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ بهذا الدين، ولم يتوفه سبحانه وتعالى إلا بعد أن أتم الدين وأكمله، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]، فإذًا لا يحق للنبي محمد ﷺ وهو نبي الله ورسوله أن يبلِّغ إلا ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إليه، ومن ثَمَّ لا يحق لغيره أن يخترع في دينه، وألا يجتهد فيه إلا بما جاء عنه ﷺ. ولهذا عظمت مكانة أهل العلم وجُعلوا ورثة محمد ﷺ.
وبناء على ما سبق: فمن كانت لديه الأهلية العلمية بما ورثه عن محمد ﷺ وتعلمه فهو الذي يقول بالجواز وعدم الجواز، والحل والحرمة ويخالف غيره مما يجوز الاجتهاد فيه أما ما لم يكن كذلك فمن الخير له ولغيره ألا يخوض فيما يجهله بدعوي أن الدين للجميع، ولا يحجر على رأي أحد. ونحو ذلك من المقولات التي تقرأ وتسمع، وبعد ذلك يقول: لنختلف، فمثل هذا جانَبَ الصواب وحاد عن الطريق، ولتقريب المسألة أكثر: الجميع يتفق على أنه لا يحق أن يطبب الناس من ليس بطبيب، ولا أن يتكلم أحد بأي كلام ويزعم أنه شعر، ولا أن يقنن في الاقتصاد أحد وهو لا يعلم منه إلا شيئًا يسيرًا، وغير ذلك من الأمثلة. فالشريعة بتفصيلاتها من باب أولى لا يتحدث عنها إلا من كان مختصًّا بها عالـمًا بقضاياها، وهو الذي يُسمح له بالمخالفة فيما يجوز فيه الاجتهاد. ومن هنا تأتي المقولة المبالَغ فيها: إنَّ بعض أهل العلم يُقْصُون الآخرين، لا يرون إلا الرأي الواحد، إلخ، أعتقد لو تدبر القائل المسألة في ضوء ما ذكر لما حصل له هذا الخلط بين المقولتين. ونخرج من هذه الوقفة بما يلي:
- مجالات الحياة واسعة لاستخدام الفكر والتأمل للبناء والتنمية ولكل من تأهل في مجال أن يبدع فيه ولو خالفه غيره.
- الدِّين تلقٍّ بالوحي، ولا يقول في الأحكام الشرعية إلَّا من كان عالمًا بها متقنًا مجتهدًا، وهو الذي يحق له المخالفة في المسائل الاجتهادية بالدليل.
- من العجلة المذمومة تبادل الاتهامات دون تحرير محل الكلام في المسائل.
- من الخير أن يفرق بين القضايا العبادية التي بُنيت على التوقيف والدليل، وبين القضايا التعاملية التي بُنيت على القواعد الشرعية وفتحت المساحة للتطبيقات العملية.
- من الخير أيضًا للأفراد والمجتمع الاتجاه للإبداع في المجال الذي يُحسِن فيه كل فرد.
- ومن الخلط والخطأ: الخلط بين القضايا، ومن ثمَّ يتجه أغلب الكلام إلى تبادل التُّهم والغمز واللمز حتى بين أبناء العلم الواحد، أو البلد الواحد.
الوقفة الرابعة:
في بيان ما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ في القضايا الشرعية.
ولعلَّ حصر ما لا يسوغ الخلاف فيه في ضوابط ومعالم يبين لنا دائرة ما يتسع فيه الخلاف ومن الذي يخالف؟
أما ما لا يُسَوِّغ الخلاف ولا يُجَوِّز لأحد أن يخرج رأيًا آخر فقد ضبطه أهل العلم بمجموعة ضوابط، منها:
- ما كان معلومًا من الدين بالضرورة وجوبًا أو تحريمًا وذلك مثل وجوب الصلاة والزكاة والصيام وبر الوالدين والأمر بالعدل وغيرها من الواجبات وفي المقابل تحريم السرقة والقتل والاعتداء وشرب الخمر والزنا وغيرها من المحرمات.
- ما انعقد عليه الإجماع ولم يخالف فيه أحد من أهل العلم ومن هنا ارتفعت مكانة الإجماع إلى أن يصبح مصدرًا من مصادر التشريع وقد حصر أهل العلم كثيرًا من الإجماعات في الكتب.
- ما كان الخلاف فيه شاذًّا أو غير معتبر مما نص عليه أهل العلم، فمن المعلوم أن بعض المسائل قد يخالف فيها عالم لم يبلغه دليل أو حكاية إجماع، أو يفهم فهمًا آخر لدليل آخر أو غير ذلك من الأسباب فهذا الخلاف يسميه أهل العلم خلافًا شاذًّا أو خلافًا غير معتبر، فمثل هذا لا يعتد به.
- ومن بدهي الضوابط وأذكرها للتأكيد: أصول الدين، كأركان الإيمان بالله ﷻ، ومن هنا نقرأ ونسمع ما يتردد من أن الثوابت لا يُختلف عليها ولا يجوز الخلاف فيها، وكلمة: «الثوابت» مصطلح حادث لم يُعرف في كتب الخلاف وإن كانت في ظاهرها اللغوي تدل على ما هو أعم من «أصول الدين» لتشمل كل ما ثبت في الشرع أو لا يتغير بتغير الأحوال أو الأزمان أو الأماكن، وقد يقال: لا مشاحة في الاصطلاح وأقول: نعم إذا تبيَّن المصطلح ومدلوله، والمقصود وضوح المصطلح ودلالته.
وبناءً على هذه الضوابط ندرك أن كثيرًا من المسائل التي تطرح -كتابة وإلقاء- لا تقبل الخلاف، إذا إن حكمها قد استقر سواء كان في أصول الدين أو فروعه.
فلو أخذت مراتب الدين المبنية على حديث جبريل عليه السلام في سؤاله للنبي ﷺ عن: الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، لوجدت أن ما لا يجوز فيه الخلاف أكثر مما يسوغ فيه الخلاف، فأركان الإسلام وأركان الإيمان وأركان الإحسان وقيام الساعة وعلاماتها لا يسوغ فيها الخلاف، وقل مثل ذلك فيما هو أكثر تفصيلًا في داخل كل ركن من الأركان.
الخلاصة:
من الخير للمسلم أن يدرك أنَّ مساحة ما لا يسوغ الخلاف فيه كبيرة جدًّا، وهذا يدل على ثبات هذا الدين ورسوخه وعظمته ويسره.
أما ما يجوز فيه الخلاف فهو ما كان غير ذلك، مثل فروع الدين التي لا تنطبق عليها تلك الضوابط وهي -ولله الحمد- موجودة مستقرة فيما بين أيدينا من المصادر. وقد أبحر فيها أهل العلم واختلفوا ورائدهم في ذلك: الإخلاص والظن الحسن والعلم والدليل. وجاءت كتب الفقه وشروح الحديث والتفاسير مليئة بذلك. وهذا الذي تحدث عند بعض أهل العلم في كتب الخلاف وبينوا أصوله وضوابطه وآدابه. وعليه ندرك نتائج مهمة:
- أن هناك ضوابط لما لا يسوغ فيه الخلاف.
- وأن مساحته واسعة جدًّا.
- وأن الخلاف السائغ فيما عدا ذلك.
- وأنه لا يجوز الخوض فيما لا يسوغ الخلاف فيه كما يظن بعض الكُتَّاب والمتحدثين.
الوقفة الخامسة:
غني عن القول أنَّ الخلاف عند وقوعه يجب أن يكون بأصوله وضوابطه وآدابه، ومنها:
- أن يُبنى على دليل من القرآن أو السُّنة النبوية أو القواعد الشرعية بما هو مفصل في مظانه.
- أن يكون من عالِم بهذا العلم أو تلك المسألة فلا يجوز أن يخوض فيه من شاء بما شاء، ومن ثَمَّ يقال: لا مانع من الخلاف، فمثل هذا سبيله التعلُّم، فإذا بلغ رتبة الفهم والاجتهاد والقدرة على الترجيح فله أن يختلف.
- أن يكون بإخلاص لله سبحانه وتعالى ومع التحري لإصابة الحق وبالأدب في الخطاب والظن الحسن وغيرها من الآداب وكما يحب المخالف أن يفهمه الآخرون يكون هو كذلك.
الوقفة السادسة:
ما موقف المسلم مما اختلف فيه أهل العلم؟ هل له أن يختار قولًا من الأقوال؟ وهل يجوز أن يأخذ من هذا تارة وذاك تارة، أو ماذا؟ لا شكَّ أنَّ هذه المسائل في غاية الأهمية، إذا يُبنى عليها عمل المسلم في هذا الحياة، كما ينبني عليها جزاؤه في الآخرة وعليها سعادته في الدنيا والآخرة.
وخلاصة ما ذكره أهل العلم: أنَّ المسلم إما أن يكون طالب علم يميز بين الأقوال وأدلتها ولديه القدرة على ذلك، فهذا يأخذ بما يستطع فيه التمييز ولا يقلد غيره إلا إذا لم يتبين له ما يميز به القول، أما إذا لم يكن طالب علم يميز بين الأقوال وأدلتها فهذا عليه أن يأخذ بفتوى غيره ممن يثق بدينه وعلمه وإذا تعددوا لديه فليأخذ بالأوثق لديه.
وبناءً عليه فليس للمسلم أن يتخير قولًا من أقوال العلماء كيف شاء وليس له أن ينتقل بين أهل العلم ليختار الأسهل أو الموافق لما يريد فهذا من اتِّباع الهوى والرُّخَص، وقد قيل: «من تتبع الرخص فقد تزندق».
الوقفة السابعة:
وبين هذا وذاك -أو قُل: بين أصول الدين وفروعه- مسائل تقرب من هذا تارة وتبعد عن هذا تارة، ويَرِدُ فيها الكلام كثيرًا، وذلك في وسائل الحياة ومنهجها وأساليبها مثل وسائل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسائل الإغاثة ونفع الآخرين والإصلاح وقضايا إدارة الحياة ونحوها، وسبب السؤال هو أن كثيرًا من الخلافات تقع فيها، وتكون مثارًا للجدل المتواصل، والذي يظهر أنَّ الأمر فيها واسع إذا كان وفق الضوابط الشرعية، مثل: «الغاية لا تبرر الوسيلة». وهذا يدل -بلا شك- على سعة هذا الدين العظيم وسماحته ويسره.
الوقفة الثامنة:
لا شكَّ أن من أهم ما يضيق هوة الخلاف ما يلي:
- تجديد الإخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ في جميع الأقوال والأعمال.
- مغالبة النفس في تحري إصابة الحق بدليله، ولو خالف الهوى أو الواقع أو غير ذلك.
- الظن الحسن والتماس المعاذير للمخالف، وحمله على المحامل الحسنة ما دام يسوغ له الخلاف.
- اللقاءات العامة، والنقاش الفردي والحوار الجماعي بآدابه وأصوله وتربية النفس على الجدال بالتي هي أحسن.
- كثرة القراءة والبحث في المسائل المختلف عليها وبخاصة النوازل التي تحتاج إلى مزيد من النظر والقراءة والتأمل.
- عدم العجلة في الحكم على الأقوال أو على مخالفين، وأخص مسائل النوازل الكبيرة التي قد تعصف بالناس جراء قول من هذه الأقوال المستعجلة.
- محاولة علاج الغلبة في النفس وحب الانتصار لقول أو لإيجاد رأي قبل الآخرين.
- مجانبة الغمز واللمز والتسرع في الاتهام والدخول في المقاصد فإنَّ هذه وأمثالها آفات توصل إلى التفرق المذموم وتوسع مداخل الشيطان.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...