home-icon
عقوق الأمهات – الدواعي والأسباب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد قال الله : ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُنّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ۞ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: ٢٣ – ٢٥]، هذه الآيات الكريمة تتحدث عن البر بالوالدين والإحسان إليهما، وألا يتعرض الولد لهما بعقوقهما وبأدنى أذية لهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وتأمر الأبناء بالدعاء لهما بالرحمة، وكما أن الله تعالى يأمر بالتوحيد ويثنيه بالأمر ببر الوالدين في كثير من الآيات، فالنبي ﷺ يعد الإشراك بالله من أكبر الكبائر ويثنيه بعقوق الوالدين، ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رَضَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قال النبي : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا؛ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”.

كما أن الله سبحانه خص بذكر إحسان الأمهات على أولادهن بقوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَى الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: ١٤]. وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: ١٥]. وفي الحديث النبوي كذلك توجيه الأبناء إلى البر بالأمهات على الخصوص، وعدم عقوقهن، ففي الحديث المتفق عليه عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي : إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : قيل: خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك.

وأوضح من ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة رض اللهُ عَنْهُ قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك»، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك»، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك”. قال النووي رحمه الله: وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب.

قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك.

والعقوق عقابه شديد وعاقبته وخيمة، في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ ۞ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ ﴾ [محمد: ٢٢ – ٢٣] وعقوق الأم يدخل في قطع الرحم من باب أولى، بل للأم علاقة قوية في القرب أو البعد في النسب، وسمي الأقارب أولي الأرحام نسبة إلى رحم الأم، التي بها تقوى علاقة الأبناء أو تضعف بأقاربه.

وأكبر وعيد ورد في حق مرتكب العقوق هو حرمانه من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرمانه الجنة التي عرضها السموات والأرض، فعن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله : «ثلاثة لا ينظر الله عَزَّوَجَلَّ إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى”، وفي مسند أحمد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى رجل أبا الدرداء فقال: إن امرأتي بنت عمي، وأنا أحبها، وإن والدتي تأمرني أن أطلقها، فقال: لا أمرك أن تطلقها ولا أمرك أن تعصي والدتك، ولكن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله ، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنَّ الوالدة أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأمسك وإن شئت فدع».

 

وما أجمل ما قال الشاعر :

لأمك حق لو علمت كبير                     كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي            لها من جواها أنة وزفير 
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة     فمن غصص منها الفؤاد يطير
فكم غسلت عنك الأذى بيمينها         وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها            ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها         حنوا وإشفاقا وأنت صغير
فاه لذي عقل ويتبع الهوى               وآه لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها       فأنت لما تدعو إليه فقير

هذا، وقد رأينا في زماننا هذا بعض الأبناء لا يقومون بأداء حقوق الأمهات من بر وإحسان ولين الجانب، بل يعاملونهن معاملة الخادمة ويرفعون أصواتهم عليهن، وهذا من عقوقهن،

ولذلك أسباب عدة لعل من أهمها :

  • عدم القيام بتربية الأبناء تربية إسلامية، والآباء والأمهات لا يمكن لهم أن يتوقعوا بر الأبناء بهم إذا لم يربوهم تربية حسنة، بل لا يمكن لهم أن يتوقعوا دعاء الأبناء لهم بدونه، لقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: ٢٤] فإذا لم يعلموهم الأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية في صغرهم فكيف لهم أن يتوقعوا الدعاء لهم؟! ولذا أكد النبي ﷺ على ذلك، فعن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: «ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن.
  • جهل الأبناء لحقوق الأمهات، فالجهل له دور كبير في عدم أداء الحقوق، وقد يكون الجهل ناتجا عن عدم تثقيف الولد في صغره من قبل الآباء والأمهات.
  • الخلافات العائلية، إذا كان الوالدان في خلاف دائم، يتهم الزوج زوجته والزوجة زوجها، هذا لا يحترم زوجته، والزوجة لا تحترم زوجها، فينعدم أو يقل الاحترام في قلوب الأبناء تجاه الآباء والأمهات، وأما الآباء فلقوتهم والخوف من بطشهم لا يستطيع الأولاد إظهار ما يدل على قلة احترامهم لهم، ولكن الأمهات لشفقتهن وعطفهن على الأولاد يجترئون على عصيانهن وعدم البر بهن ورفع الصوت عليهن، والعياذ بالله، وقد يأمر الوالد في بيئة الخلافات العائلية ولده بعصيان أمه وعدم البر بها.
  • رفقة السوء، فإنَّ لهم دورًا كبيرًا في سوء الأخلاق وعدم البر بالأمهات، فإن القرين بالمقارن يقتدي.
  • الطاعة العمياء من الولد بعد زواجه لزوجته، فبعض الأولاد هداهم الله بعد زواجهم تصير زوجاتهم محور فلكهم، لا يفعلون شيئًا إلا بإذنهن، وبر الوالدين كذلك لا يكون إلا برضاهن.

على الأم إذا رأت من ابنها العقوق الصبر الجميل، والدعاء لصلاحه، وتذكيره بحقوقها عليه بالحكمة، والحذر الحذر من الدعاء عليه، فإن دعوة الأم مستجابة في حق ابنها، كما فعلت أم جريج به، فعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يصلي جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقالت من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي”.

الدلال الزائد والترفيه المبالغ فيه في التربية قد يؤدي إلى العقوق، والعاقل لا يربي أولاده على ذلك، بل عليه بالحزم مع العطف والحنان في حد معقول فيستعمل الدلال في موقعه، والحزم في موقعه، لا الدلال الزائد في كل حين، ولا الحزم في كل وقت. وقد ينشأ الابن في محيط ديني مع حلقات التحفيظ
ومجالس العلم، ومع ذلك إذا صدر منه ما يدل على العقوق، فهناك خلل في التربية، مثل الخلافات العائلية، أو القسوة في التربية، أو عدم العدل بين الأولاد، فهذه الأمور لها أثر كبير في أخلاق الابن إذا كبر، وقد يصل إلى العقوق.

فضل الأم كبير، وحقها عظيم، يفوق حقوق جميع العباد إلا الرسول ﷺ، ومع ذلك الذي يتوقع من الأم العاقلة ألا تستغل هذا الفضل في إحراج الابن بأوامر لا تقرها عقول سوية، مثل أن يطلق الابن زوجته بدون سبب معقول، أو تنهى عن السفر لأمور مباحة أو مستحبة مثل سفر العمرة، والحكمة والحوار الهادئ والنقاش المعقول إذا كانت مطلوبة من المعلم والداعي، فالأم كذلك تختارها لقضاء حاجاتها من الابن، بل هي أول معلمة ومربية بالنسبة لولدها، وهي تعلم نفسية ابنها ومزاجها، فلا تحرجه بأوامر غير معقولة، ولا تخاطبه بأسلوب يجرح مشاعره حتى لا تكون سببا مباشرًا في عقوقه.

من الأبناء من يكون أمر المال عنده فوق بر الأم، وخصوصا بعد وفاة الأب، في الإرث، فنقول لهؤلاء الأبناء: اتقوا الله في أمهاتكم، ولا تؤذوهن في أمور لا تبقى في حال واحدة، فالأموال اليوم لكم وغدًا لورثتكم، واتقوا آهات الأمهات، قد جرحت قلوبهن بفقد أزواجهن، ثم تزيدون في جرحها وألمها الأموال لم تكن بأيديكم أمس، وتذهب غدًا بأيدي ورثتكم، ولا تنسوا قول الله تعالى في حق الآباء والأمهات: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لهُمَا أُنِّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) [الإسراء: ٢٣ – ٢٤] ، وهذه المعاملة ليست من الرحمة، بل من القسوة وقد تبعث الأم على بث الشكوى إلى الله فتفسد دنياكم وأخراكم.

نعم قد يؤدي عدم إشباع الحاجات النفسية إلى العقوق، وخصوصا إذا كان الوالدان في خلاف دائم، أو في انشغال عن الأولاد، الأب مشغول في أمور دنياه، والأم مشغولة في زيارات ونزول الأسواق وتتبع الموضات، وتتم التربية في حضن الخادمة، ففي هذه الحالة لا ينشأ الولد على احترام الوالدين، ولا يتربى على الأخلاق الحسنة، ولا يعرف حقوق الآباء والأمهات.

الفقر والحرمان واليتم هذه أمور قد تؤدي إلى عقوق الأم، وليس في كل حين إذا نشأ في بيئة صالحة، وربته أمه على أخلاق فاضلة وعلمته حقوق العباد،
ولم يصحب رفقة السوء، فكم من اليتامى أو المحرومين من وسائل الترفيه هم أبر إلى أمهاتهم من أولاد الأثرياء. نسأل الله أن يمن علينا بالهداية والتوفيق، وأن يرشدنا إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.