home-icon
رمضان والمسلمون في كل مكان

الحمد لله الذي بلَّغنا رمضان، ونسأله التوفيق والقبول والرضوان، ونصلي ونسلِّم على خير من صلَّى وصام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، على مر الليالي والأيام، أما بعد:

فقد كنتُ في زيارة قريبة لإحدى الدول العربية قبل دخول شهر رمضان المبارك، وقد بدأت الاستعدادات لشهر الصيام، وكانت معالم الفرحة والبهجة تلوح على محيَّا كل مسلم يدرك قيمة هذا الشهر، وما أعدَّ الله تعالى فيه من منح عظيمة لا تدركها العقول ولا تتخيلها التصورات. فتوقفتُ متأملاً لعظمة الباري سبحانه، ولعظمة تشريعه، فأوقفتني ثلاث وقفات أظن أنها في غاية الأهمية للنظر والتأمل لتنعكس على واقعنا الفردي والجماعي:

الوقفة الأولى: وحدة مصدر التلقي

إن وحدة مصدر التلقي ترتكز على العبودية الخالصة للخالق جل وعلا، الذي خلق الخلق لغاية كبرى. وقد ظهر هذا المعنى في قوله تعالى:
﴿فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]
وبينت هذه الوحدة تجلياتها في إرسال الرسل وتبيان معاني التوحيد، إذ قال تعالى:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِيٓ إِلَيْهِم مِّنْ أَقْوَٟلِهِم مَّا يُوحُونَ﴾ [النحل: 43]
وكذلك أنزل الله الكتب مبيناً تفاصيل هذا التوحيد في قوله:
﴿كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ مُبَارَكٌۭ لِّيَدَّبَّرُوٓا۟ ءَايَـٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ﴾ [ص: 29]

إن مصدرية التلقي (كتاب الله وسنة رسوله) هي الأساس، وقد أكَّد القرآن الكريم ذلك بأساليب شتى وصيغ متنوعة؛ إذ جاء في قوله:
﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا وَلَظْفًاۚ قَالُوا۟ سُورَةُ ٱلسَّمَآءِ!﴾ [التغابن: 11]
ومنه يستنبط المؤمن أن الاتباع لا يكون له مكانٌ للهوى والعرف، مستذكراً قوله تعالى:
﴿أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن رَّبِّهِمْ هَـٰٓؤُلَآءِ يُقَرِّبُونَ﴾ [الأنفال: 1]
وكذلك، يؤكد الله في سورة آل عمران على أهمية الاتباع المتقن لأوامره:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 32]

وفي تحذير صارم لمخالفة هذا الأصل، يقول الله تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا۟ كَالَّذِينَ نَسُوا۟ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [النور: 37]

وقد أكدت السُّنة النبوية هذا المعنى حينما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«‏كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قيل: يا رسول الله، فمن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».

ولم يغب الصوم –كمثال على التكليف من هذين المصدرين– عن هذا المنهج؛ إذ قال الله تعالى:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]
وقوله تعالى:
﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]
وبذلك يؤدى المسلم التكليف بإخلاص واستسلام، ليتذوق عظمة التلقي وآثاره في الدنيا والآخرة.


الوقفة الثانية: توحيد الناس على فريضة الدين

حين نظرت إلى الاستعدادات الرمضانية والبهجة التي تملأ الوجوه، تساءلت: من الذي وحد الناس على هذا الفعل؟ الإجابة لا محالة هي الله تعالى، فهو المشرع الواحد، الذي وحد البشرية على طاعته في كل زمان ومكان. وقد تجلى ذلك في سلوك المسلمين أثناء هذا الشهر الكريم؛ فرمضان موسم لتجديد العلاقة مع رب العالمين وتطهير الحسابات، حيث يدعو كل مسلم إلى إعادة النظر في تعامله مع أسرته ومع الآخرين، وفي معاملته المالية والاجتماعية، مستذكراً قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي ٱلْبُيُوتِ مِنْ قَبْلِ ٱلْقُضْيِ وَقُولُوا۟ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ﴾ [الأعراف: 88]

إن رمضان ينادينا بأعلى صوته للعمل الجاد، فربما يعود مجدٌ ضاع أو يُستعاد عزٌّ تهنا عنه، ولعل في هذا التجديد توحدٌ بين أفراد المجتمع يجمعهم على هدًى سديد. فكل ذلك من أجل أن يكون رمضان شاهدًا على إحياء النفوس وتصحيح المسارات.


الوقفة الثالثة: وحدة التوجه في العبادة والتآزر الاجتماعي

في كل مكان، يصوم المسلمون نهار رمضان ويقومون ليله متوجهين بقلوبهم إلى الله الواحد الأحد. هذا التوجه الجماعي يجعل الدعاء سلاحاً فعالاً، حيث يتكاتف كل فرد في أداء ما يقدر عليه؛ سواء كان دعاءً خاشعاً في جوف الليل، أو عند الإفطار، أو في سجوده بين ركعاته. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّى فَإِنِّي قَرِيبٌۭ﴾ [البقرة: 186] فبهذا الدعاء ينبض القلب بعظمة الواجب تجاه الأخوة في الإسلام، ويتعاظم أثره حين يشارك فيه الجميع؛ من تقديم المال أو الرأي أو حتى الهمزة الطيبة في خدمة الإصلاح والنفع العام.

إن هذا التجمع على الدعاء والعمل الخيري يعكس روح الوحدة والتآزر التي دعا إليها ديننا الحنيف؛ فكل فعل خير، مهما كان بسيطًا، يعدُّ خطوةً نحو بناء مجتمع متماسك ومتلاحم.


أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لتجسيد هذه المعاني السامية في حياتنا، وأن يكون رمضان هذا العام محطة إصلاح وتجديد في نفوسنا ومجتمعاتنا.

ونلتقي على خير.