home-icon
خواطر حاج في يوم عرفة

في هضاب منًى وتلالها وفي وديانها ووهادها، وفي صبيحة اليوم التاسع من شهر الله الحرام (ذي الحجة) من كل عام تجتمع قوافل الإيمان وتستعد للانطلاق إلى عرفات التي تبعد عن مكة المكرمة بضعة كيلومترات، هذه القوافل التي وفدت إلى هذه البقاع من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق، بمختلف الطبقات والأعراق، الأشراف منهم والعبيد، والأغنياء منهم والفقراء، والرؤساء والمرؤوسين، والبيض والسود، يتجهون جميعًا بعد صلاة الفجر من هذا اليوم المبارك إلى أبرك البقاع وأطهر التلال إلى أرض الرحمة وإلى جبل الرحمة، إلى عرفات، وكلهم في هيام وشغف، وفي شوق وتحنان لتلك الأرض، التي طال انتظارهم لرؤيتها وللوقوف على تربتها وأحجارها، وطال شوق جباههم للتمرغ في أديمها، إنها مشاعر العاشقين التواقين إلى المحبوبين، فيقدمون كل غالٍ ونفيس للوصول إليهم، هذه مشاعر تلك الجموع قبل دخولهم أرض عرفات، وألسنتهم لا تتوقف عن ذكر الله والاستغفار والتكبير والتهليل، وأكثر ما يتردد على تلك الألسِنة كلمات أنبياء الله جميعًا وآخرهم رسول الله ﷺ: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وهذه تلبية العبيد لأمر معبودهم، واستجابتهم لندائه الخالد على لسان خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].

إنَّ هذه القوافل الإيمانية وهذه الانطلاقة البشرية الهائلة تنطلق إلى عرفات ركبانًا ومشاة، وقد تفرعت وتوزعت بمختلف الطرق والوديان للوصول إلى عرفات الرحمة، وقد أنهكهم تعب الأسفار، وحرارة الشمس، ونصب العبادة، والبعد عن الأهل والديار، وأحيانًا المرض والفقر، والجوع والعطش، لكنها رغم هذا كله تمضي ولا تبالي بهذه المشقات والتعب، ولا تضع شيئًا من ذلك في الحسبان، لأنها تملك مشاعر وأحاسيس لا يعرفها إلا من تذوقها وعاش مواقفها، وكيف لا يكون لها ذلك وقد قدموا إلى هذه البقاع راضية نفوسهم، طائعة لأمر ربها، راغبة في عفوه ومغفرته، وكيف لا يكون لها ذلك وقد قدموا إلى رب ودود رحيم. ترى هذه الأمواج البشرية قاصدة ربوع عرفات بمشاعر مرهفة، وقلوب خاشعة، وعيون باكية، وقد أجاد شوقي وأبدع في وصف مشهد هذه الجموع وهي تصعد إلى عرفات بقوله:

إلى عرفات الله يا خير زائر على كل أفق بالحجاز ملائك إذا حُديتْ عيسُ الملوك؛ فإنهم عليك سلام الله من عرفات تزُفُّ تحايا الله والبركات لعيسك في البيداء خيرُ حُداة

وما إن تقترب تلك الجموع من عرفات وتخترق مراكبُهم حدودَها، تتعالى أصواتهم إلى العزيز الجبار فتمتلئ الآفاق بالبكاء، وتحترق الخدود بالعَبرات والزفرات، راجين من ربهم القبول والغفران، والصفح والتجاوز عن ماضيهم ومعاصيهم، فإنهم الآن واقفون على عتبة باب الرحمن الرحيم، يطرقونه بقلوبهم الوجلة، وأياديهم المتضرعة، ولسان حال كل واحد منهم يقول:

وأنت وليُّ العفو فامحُ بناصعٍ  من الصفح ما سوَّدتُ من صفحاتي

فينزل هذا الإله وهذا الرب الرحيم إلى السماء الدنيا ويباهي بعباده هؤلاء ملائكته في السماء، ويقول: «انظروا عبادي شعثًا غبرًا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروني، ويعوذون من عذابي ولم يروه، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم».

فيا له من يوم عظيم رحيم على عباد الله الصالحين، يتقرب فيه الناس من خالقهم بالدعوات والذكر والاستغفار، ويدنو منهم ربهم ويغفر لهم ويعفو عنهم ويتجاوز عن خطاياهم، ويا له من يوم خزي وعذاب على الشياطين وأوليائهم، حيث لا تنالهم هذه الرحمة ولا تشملهم تلك المغفرة، فهم أذل الخلائق يومئذ وأصغرها وأحقرها، يقول المصطفى ﷺ: «ما رؤي الشيطان يومًا فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا بما يُرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام».

وعند استقرار الحجيج في عرفات تتوجه المواكب البشرية لتصلي صلاة الظهر والعصر جمع تقديم في مسجد نمرة، وتستمع إلى خطبة الحج الجامعة الشاملة من أحد كبار علماء الأمة، فيبين فيها أحوال المسلمين ومعاناتهم وسبل الرفعة بهم، كما يدعو إلى توحيد الصفوف والتعاون إلى الاجتماع والتماسك ونبذ الفرقة وأسبابها، لتتمكن الأمة الإسلامية من الوقوف في وجه أعداء دينها وعقيدتها.
في هذا اليوم المبارك وفي هذه البقعة المباركة، وفي هذا الموقف العظيم، تذوب الطبقات وتنقطع الأنساب والأعراق، وتتلاشى الوجاهات والأواصر، فلا تبقى إلا آصرة العقيدة والدين، التي جمعتهم في هذا المكان، وجاءت بهم من مشارق الأرض ومغاربها، ليلتقوا في هذا الصعيد المبارك بلباسهم الموحد، قال الشاعر:

أرى الناس أصنافًا، ومن كل بقعة تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت إليك انتهوا من غربةٍ وشتاتِ لديك، ولا الأقدار مختلفات

فواقع حالهم يقول: “أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

وفي عرفات يتحقق مبدأ توحيد الله تعالى الذي هو من أسمى أهداف الحج وأعظم غاياته، لذا حث المصطفى ﷺ التوحيد في عرفات بقول لا إله إلا الله، فقد أوصانا هذا الحبيب بخير قول قيل في هذا المقام على ألسِنة الأنبياء جميعًا: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وما يفعله الحجيج وما يقولون في عرفات من جمع بين الصلوات، وذكر ودعاء واستغفار، ما هو إلا اقتداء بالنبي ﷺ، المبلِّغ عن ربه، والمعلِّم أمته كيفية أداء العبادات والفرائض، فهي ليست حركات وطلاسم مبهمة، أو إيحاء من النفس أو هوى جامح، بل هي توقيفية من المصطفى ﷺ الذي هو قدوتنا في كل أمر ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، لذلك كان يعلم ﷺ أصحابه في الحج ويقول لهم: «خذوا عني مناسككم».

وعندما تقترب شمس هذا اليوم المبارك من الأفول، يستعد الحجاج للرحيل من عرفات لإتمام المناسك، فينطلقون بعد دخول جزء من الليل إلى المزدلفة لإتمام المناسك الأخرى، وهم على يقين بوعد الله ﷻ لهم بالمغفرة والتوبة، وأنه جلَّ وعلا قد طهرهم من أدران الذنوب وأوزار المعاصي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وكما ولدتهم أمهاتهم.

وأخيرًا تتجلى في موقف عرفات، عظمة هذا الدين، وعظمة رسالته، هذا الدين الذي استطاع أن يلم بهؤلاء البشر المختلفين في لغاتهم وأعراقهم وألوانهم، ويأتي بهم من أقاصي الأرض وأدناها، ليجتمعوا كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، وأمام رب واحد، يرجون رحمته ويخشون عذابه، ليبرهن للعالم أجمع أنه دين الله الذي جاء به الرسول الأمين للناس كافة، لا تفاضل ولا تباين بين الناس فيه إلا بالتقوى والعمل، قال ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]. وتتجلى في هذا الموقف رحمة من بيده ملكوت السموات والأرض بعباده، وتودده إليهم، ومغفرته لهم، فهو خالقهم وبارئهم، وإليه يرجعون.