home-icon
خادم القرآن الشيخ عبد الرحمن آل فريان إلى رحمة الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذه الحياة ميدان فسيح، مليء بالأفراح والأتراح، ومن هذه الأتراح وأشدِّها على النفس ألـمًا ما كان من فراق بعد اجتماع، وبخاصة إذا كان فراقًا لا يعقبه اجتماع، ويشتد الألم والحزن إذا كان فراقًا لعظيم من العظماء، أو عالم من العلماء، انتشر نفعه، وعمَّ خيره، وتنوع عطاؤه للصغير والكبير، والذَّكر والأنثى، والعامَّة والخاصَّة.

ومن هؤلاء الذين فارقوا هذه الحياة، بعد حياة مليئة بالعطاءات الخيرة، والبذل الواسع، والجهد المتميز، فخلفوا وراءهم حزنًا عميقًا وجرحًا غائرًا ليس لأهلهم وذويهم، وإنما لكلِّ من عرف الجهد والبذل العظيم، ذلكم هو الشيخ الهمام، والعالم الفاضل، خادم القرآن: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن آل فريان، الذي إذا ذكر اسمه ارتسم في الذهن القرآن.

انتقل الشيخ إلى رحمة ربه ليلة الخميس (7/7/1424هـ) بعد أن قضى ثمانين عامًا في هذه الحياة، فقد ولد في عام 1433هـ من هجرة النبي ﷺ في مدينة الرياض.

والشيخ رحمه الله نشأ في أسرة محافظة ومعروفة، وكان والده رحمه الله حافظًا لثلثي القرآن أو أكثر عن ظهر قلب، وكان حريصًا على ولده الشيخ عبد الرحمن، لذا جعله يقرأ القرآن ولم يبلغ من عمره إلا السابعة، وأوَّل من قرأ عليه القرآن الشيخ صالح بن محمد بن مرحوم المسمى «مصيبيح»، وكانت التلاوة من المصحف فقط، وبعد ما ختم القرآن كرَّره مرتين وكانوا يسمونه «التجويد»، ثم أراد والده رحمه الله أن يحفظ ولده القرآن كاملًا عن ظهر قلب، فبدأ يغيب القرآن الكريم في البيت عند الوالد يعتزل في محل بعيد عن الضوضاء، وكل قطعة كان يحفظها من القرآن يكررها ثمانين مرة! وبعد أن ختم القرآن على والده أراد والده أن يقرأ على من هو أجود منه، فبدأ يقرأ على الشيخ علي اليماني رحمه الله الذي هو شيخ لمحمد بن أحمد بن سنان، حتى وصل إلى سورة الإسراء فتوفاه الله عَزَّ وَجَلَّ، فكمل قراءته على الشيخ محمد بن أحمد بن سنان، ثم تتلمذ على يد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهما الله، وقرأ عليه «الثلاثة الأصول» المعروفة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، و«آداب المشي إلى الصلاة»، و«عمدة الأحكام»، و«بلوغ المرام»، وقرأ الفرائض على الشيخ عبد اللطيف رحمه الله ، كل ذلك كان غيبًا، ثم بدأ في صحيح البخاري وصحيح مسلم واقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وشرح كتاب التوحيد وغير ذلك من الكتب النافعة، وبعد ذلك فتحت المعاهد فأكمل دراسته في كلية الشريعة، وعندما تأسست الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في سنة 1378هـ على يدي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حصل الاختيار أن يكون الشيخ عبدالرحمن آل فريان رئيسًا لها بمنطقة الرياض، وأول ما تأسس في الرياض من مدارس التحفيظ تحت إشراف الجماعة الخيرية: عشر مدارس، ثم جعلت تزيد وتزيد حتى بلغت الآن قرابة خمسمئة حلقة في الرياض فقط، وذلك بعد توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ لما بذله الشيخ من جهود جبارة وعمل متواصل جزاه الله خيرًا.

والشيخ حفظه الله كان بعيد النظر وصاحب البصيرة، فقد حرص على أن من يحفظ القرآن الكريم وسعى ألا تذهب طاقاته سدًى وألا ينسى القرآن الكريم بعد حفظه، فأسس معهدًا للقرآن وعلومه في سنة 1403هـ، وهذا المعهد للقرآن وعلومه فريد من نوعه عند جماعات التحفيظ، ولا يوجد إلَّا في جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالرياض فقط، ويشترط لمن يريد الالتحاق بهذا المعهد أن يكون حافظًا للقرآن الكريم، وأن تكون سِنه من خمس عشرة إلى عشرين، وأن يجتاز المقابلة الشخصية، ويتخرج من هذا المعهد دفعات من المرحلة الثانوية والمتوسطة، وقد أعطت الجماعة الموافقة على الاعتراف بهذا المعهد ودخول المتخرجين فيه في كليات الشريعة وكليات أصول الدين، ولذا ارتبط اسمه رحمه الله بالقرآن الكريم، ولا أذكر أنه دُعي إلى تكريم بعض الأبناء الذين حفظوا القرآن أو بعضه إلا وأجاب الدعوة مشجعًا لهم، وموجهًا لهم بالاستمرار في الحفظ والمحافظة عليه والعلم والعمل، وأذكر أنه عندما كُنَّا صغارًا نحفظ القرآن في جامع غميتة بالمرقب كان يحضر بين وقت وآخر وبصحبته بعض المدرسين والموجهين وكان أستاذنا في التحفيظ الشيخ شريان آل شريان حفظه الله، فكنا نسر بمجيئهم وتشجيعهم. ومما اشتهر به رحمه الله إسهاماته الفاعلة في الدعوة والإرشاد، والإصلاح بين الناس، والخطب وإلقاء الكلمات، وله برامج ثابتة طيبة ونافعة في إذاعة القرآن الكريم، وله رحمه الله عناية خاصة بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخاصة والعامة، سرًّا وعلانية، بحكمة وعقل، وتأسٍّ بالنبي ﷺ، لذا كان مقبولًا طيبًا محبوبًا بنصحه وإخلاصه. ومع هذه الأعمال الجليلة الكبيرة لم ينس العطف والرحمة بالفقراء والمساكين صدقةً وبرًّا وإحسانًا وشفاعةً لهم، تذكر هذه الأعمال لهذا العالم الداعية الجليل الذي وهب حياته خدمة للقرآن والعلم، ولنفع الناس، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ورحمه رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وأخلف عن المسلمين خيرًا، وبارك في البقية من أهل العلم وتلاميذهم، وجعلهم خير خلف لخير سلف، والخير باقٍ في هذه الأمة، جعلنا الله جميعًا من أهل الخيرية.