
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
اتفق علماء الأمة على حُجية السُّنة النبوية مصدرًا للتلقي بعد القرآن الكريم، وذلك للأدلة الكثيرة الواردة في ذلك، من القرآن الكريم ومن السُّنة النبوية نفسها، ومن الصحابة رضوان الله عليهم وبالعقل، وفق التالي:
أولاً: حُجية هذا المصدر من القرآن الكريم:
إنَّ الآيات التي وردت في سياق الأمر باتباع الرسول والأخذ عنه كثيرة للغاية، ولكننا سنُورد بعض تلك الآيات التي تدل دلالة واضحة على مكانة السُّنة وحُجيتها بالنسبة للأمة:
- جاء الأمر صريحًا بضرورة اتباع النبي عليه الصلاة والسلام والالتزام بما جاء به من الأمر والنهي، كما في قول الله تعالى: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].
- جمع الله تعالى طاعة الرسول بطاعته، فقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]. وقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: 20]. وقال جل ثناؤه: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].
- أمر سبحانه وتعالى برد الحُكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والرجوع إليه في حياته عند الاختلاف والتنازع، والرد إلى سنته بعد وفاته، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
- نفى الله تعالى الإيمان عن الذين لم يقبلوا بقضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لهم، فقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]. وغيرها من الآيات كثيرة جدًّا.
- كما وصف الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام في كتابه المبين بصفات تدل على اتباعه وأخذ التشريع منه، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
ثانيًا: حُجية السُّنة النبوية من السنة نفسها:
لقد بيَّن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة وفي مناسبات مختلفة، منها قوله الرسول عليه الصلاة والسلام: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»(30).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».
والحديث الذي بين أيدينا: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه».
ثالثًا: حُجية السُّنة من إجماع الصحابة:
أجمع الصحابة ضي الله عنهم على وجوب اتباع السنة النبوية والعمل بها، وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام وبعد مماته، كما ورد في قصة معاذ بن جبل ضي الله عنه حين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن وقال له: «كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم يكن في كتاب الله؟» قال: فبسنة رسول الله، قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله عليه الصلاة والسلام على صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله ورسوله».
رابعًا: حُجية السُّنة من المعقول:
العقل يقر ضرورة أن تكون السنة المصدر الثاني للتلقي والتشريع؛ لأن في القرآن كثيرًا من الأحكام والتشريعات والفرائض لا يمكن معرفتها وكيفيتها إلا من خلال السنة التي شرحتها وفصلتها، كما في قوله تعالى في فريضة الصلاة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وكذلك فريضة الحج ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97] حيث جاءت السنة وبينت كيفية هذه الفرائض وأوقاتها وكذلك الحال بالنسبة للفرائض الأخرى، وهو ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]. كما أن هناك حالات كثيرة لم يرد فيها نص القرآن وبينتها السنة النبوية، مثل حكم أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع. ليس هذا فحسب، بل كان عليه الصلاة والسلام في حياته العملية ترجمة حقيقية للقرآن كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: «كان خلقه القرآن».
إنكار السُّنة النبوية:
بناء على ما سبق من بيان الأدلة القطعية على حجية السنة النبوية من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة وبالمعقول، فإن إنكار السُّنة النبوية ورفضها وعدم العمل بها يُعدُّ كفرًا صريحًا، يُخرج قائلها من الإسلام؛ لأنها إنكار لكلام الله تعالى ورفض له، وهو من الكفر.
شُبهة حول حُجية السُّنة النبوية:
حين ظهر لأعداء هذا الدين تمسُّك الأمة بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسُّنة النبوية واهتمام الصحابة والتابعين بها، وعدها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، لم يعجبهم هذا الاتفاق والإجماع فعمدوا إلى إثارة الشبهات حول السُّنة النبوية كمصدر ثانٍ للتشريع الإسلامي، لا سيما عند ظهور الخوارج والزنادقة، من خلال تأويل النصوص وليِّها على أهوائهم، وطرح الحجج الضعيفة والأحاديث الموضوعة، فاستدلوا مثلًا بقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89] وبالتالي فلا حاجة للسُّنة، كما استدلوا بحديث موضوع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف فلم أقله».
الردُّ على هذه الشبهة:
يمكن الرد على هذه الشبهة من خلال النقاط الآتية:
- الآيات القرآنية التي سبق ذكرها واضحة في وجوب اتباع السُّنة النبوية ولا تحتاج إلى تأويل أو تفسير آخر يخالف أوجه القطع فيها بضرورة اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وأخذ الشريعة منه.
- استدلالهم بالآيتين السابقتين استدلال ناقص، لأنَّ القرآن الكريم في الحقيقة كتاب شامل لحقائق الكون ومخلوقاته وآياته، وكذلك الأحكام والتشريعات المتعلقة بهذا الكون والإنسان الذي يعيش في كنفه، ولكن هذه الحقائق جاءت في كثير من الأحيان بصورة مجملة وعامة غير مفصلة، فجاءت السُّنة النبوية امتدادًا لها ومفصلة وشارحة لما يحتاج إلى بيان وتفصيل، كما هو الحال في الصلاة والزكاة والحج وغيرها التي تحتاج إلى كيفية أدائها وأوقاتها.
- أمَّا استدلالهم بالحديث السابق، فهو حديث موضوع وضعته الزنادقة كما يقول يحيى بن معين رضي الله عنه، ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه عن هذا الحديث: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير(). ثم إنَّ هذا الحديث الموضوع يخالف ويناقض كلام الله تعالى، كقوله: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80] وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:20]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
- وأخيرًا يكفي هذه الشبهة قبل أن تظهر وتثير التشويش على السنة النبوية، قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «يوشك أن يقعد الرجل متكئًا، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللنا، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله».
كانت تلك بعض المعالم المهمة حول حُجية السُّنة النبوية باعتبارها مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع الإسلامي مع كتاب الله تعالى، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...