
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لقد كرَّم الله الإنسان ورفع شأنه بين الكائنات، فقال جل شأنه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]. وهذا التكريم شامل لعقل الإنسان ونفسه وبدنه وماله وأهله، لذا حذَّر الله تعالى من المساس بهذا الإنسان من غير حق، في الجوانب المختلفة، وأوَّلها حياته، فقال جل وعلا: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: 32].
ومع هذه الإشارات القرآنية لتكريم الإنسان وضرورة الحفاظ على حقوقه كاملة، جاءت التأكيدات النبوية على ذلك في خطبة النبي ﷺ الأخيرة الموجهة إلى الأمة المسلمة في حجة الوداع، حيث كانت بمثابة ميثاق حول حقوق الإنسان بصورة شاملة، في حماية النفس وحفظ الأعراض والأموال، وإرساء مبادئ الإخوة بين الناس، ونبذ التناحر والاقتتال، واجتناب الربا في المعاملات المالية، وإقرار حقوق المرأة وغيرها من الحقوق.
وقد اشتملت هذه الخطبة وفق الروايات المختلفة على معالم حضارية وإنسانية كثيرة، نختار منها بعض ما يتعلق بحقوق الإنسان، وهي:
- حرمة الدماء والأموال والأعراض: حيث قال النبي ﷺ: «فإنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (رواه البخاري)، وهذه الحقوق الثلاثة من المقاصد الشرعية الخمسة التي استنبطها أهل العلم، فقد جاء هذا التحذير من المساس بهذه الحقوق التي كانت العرب تستهين بها في جاهليتهم، لا سيما مع الطبقات الضعيفة والمستعبدة من قبل الزعماء والوجهاء والأثرياء، وهو تأكيد لكلام الله ﷻ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ۞ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الإسراء: 32-33].
- حرمة الإيذاء والاعتداء على الحقوق: حيث قال النبي ﷺ في هذه الخطبة: «ألا إنَّ المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه» (رواه الترمذي)، فقد حدَّد النبي ﷺ ما يجب على المسلم القيام به تجاه أخيه المسلم، ومن أهم مقتضيات هذه الأخوة الإخلاص في التعامل معه، وعدم إيذائه والإساءة إليه سواء بالفعل كالبطش به، أو غشِّه أو سرقة ماله وغيرها، أو الإساءة بالقول كغيبته والتجسس عليه والاستهزاء به والكذب عليه، وهو تأكيد لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات:11-12].
- حرمة الاختلاف والتناحر: حيث قال النبي ﷺ: «وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. فلا ترجِعُنَّ بعدي كفارًا أو ضُلَّالًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (رواه مسلم)، فما أعظم هذه الوصية التي تدعو إلى عقيدة التوحيد والمحافظة عليها، والتي توحِّد الصف، وتقوِّي العزائم، وتحقن الدماء، لأنَّ انحراف العقيدة يؤدي إلى ظهور الفِرَق الضالة والمذاهب المنحرفة، وبالتالي حدوث النزاعات والصراعات فيما بينها، وتكون النتيجة الفُرقة والشتات، والضعف والانكسار، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، وجميعها انتهاكات لإنسانية الإنسان وحقوقه واستقراره وأمنه.
- تحريم الربا: حيث قال النبي ﷺ: «ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» (رواه الترمذي)، ويتضمن هذا التوجيه النبوي أهم مبدأ فيما يخص الإنسان في ماله، وهو تحريم الربا في جميع المعاملات المالية والتجارية، لما يترتب عليه من مفاسد كبيرة ومتنوعة، لأنه سبب في إفقار الناس، ونشوب الأحقاد والأنانيات والصراعات بينهم، فضلًا على حدوث الجرائم والسرقات في مجتمعاتهم، وقد شدد القرآن الكريم على تحريم الربا في أكثر من موطن كما في قوله ﷻ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة275- 276]. ومن المعلوم أنَّ النظام الربوي الذي يتحكم في اقتصاديات الدول الكبرى وشعوبها هو السبب في كثير من الأحيان في حدوث الأزمات والكوارث المالية في ميزانياتها، وبالتالي تتعطل عجلة الاقتصاد عندهم في الصناعة والتجارة ومجالات التنموية المختلفة، وإنَّ الأزمَّة الاقتصادية الأخيرة التي عمت كثيرًا من الدول الغربية كانت بسبب النظام الربوي المفتوح من غير ضوابط وقيود، وهو ما دفع كثيرًا من العقلاء وأصحاب القرار عندهم إلى الاستفادة من النظام الإسلامي في حركة الاقتصاد والأموال.
- إقرار حقوق المرأة: حيث قال النبي ﷺ: «ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم. ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة» (رواه الترمذي)، فالمرأة هي الأم والزوجة والأخت والبنت والعمة والخالة، وجاء هذا الإعلان إقرارًا بحقوقها المختلفة، الإنسانية والمالية والاجتماعية والفكرية وغيرها، لأن المرأة في المجتمع الجاهلي كانت تعاني إهمالًا كبيرًا من المجتمع، وتعيش على هامش الحياة، وكان الرجل يتعامل معها بقسوة واستعلاء، وكان ميلاد المرأة يشكل عارًا لأهلها، وكانت تُحرم من الميراث، وتُحرم من إبداء رأيها في الزواج أو أي أمر آخر، وغيرها من المظالم التي كانت المرأة مثقلة بها.
فكان هذا التوجيه النبوي للأمة بخصوص المرأة والعناية بها وتكريمها دليلًا على مدى عناية الإسلام بها، وإقرار بدورها الكبير في الحياة بجانب الرجل، فلا تكتمل حركة الحياة وبناء الإنسان بشكل صحيح إلا إذا اكتمل الجانب الإنساني بين الرجل والمرأة، وهو تصديق لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
إنَّ هذه التعاليم النبوية التي أعلنها النبي ﷺ قبل أربعة عشر قرنًا حول حقوق الإنسان وتطلعاته وأشواقه في الحياة، تُرجمت إلى واقع عملي في حياة الناس لقرون كثيرة، حين كان الإسلام قائدًا ورائدًا في جميع شؤونهم وأحوالهم، وحين ابتعدوا عن عقيدة الإسلام وأخلاقه وتعاليمه أصابهم الله سبحانه وتعالى بالضعف والفُرقة والتخلف والانحطاط فأصبحوا يطرقون أبواب المنظمات الأممية وجمعيات حقوق الإنسان حديثة العهد في هذا المجال، والتي ينقصها الإخلاص والحيادية والمتابعة في التعامل مع مظالم الشعوب بميزان واحد. فما أحوج الناس إلى العودة إلى الإسلام وتعاليمه في كل مجالات الحياة، وتطبيقها على النفس والمجتمع والدولة، حفاظًا على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وتفاديًا للنزاعات والصراعات وسفك الدماء، وإشاعة الأمن والسلم، والاشتغال بالرقي للمعالي في جميع جوانب الحياة.
هكذا صاغت الخطبة تلك المقررات، فلنَصُغْها واقعًا في حياتنا ونحن نعيش هذا الموسم العظيم، موسم الحج إلى بيت الله الحرام.
وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كيفية مناصرة الداعية للنبي عليه الصلاة و السلام
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإنَّ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في...

كيف نخدم السُّنة النبوية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: منزلة السُّنة النبوية: تعدُّ السُّنة النبوية مصدرًا أساسيًّا...

سب الصحابة رضي الله عنهم «وقفة تأمل»
لست هنا بصدد الكلام عن فضل الصحابة رضي الله عنهم، أو بيان تعديلهم، أو إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنة...

حديث ابن عمر رضي الله عنه في محظورات الإحرام
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج،...

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...