
يقول البلاغيون: إنَّ لكل مقام مقالًا، ولكل حدث حديثًا، وهذا العدد من مجلة الإرشاد يصدر في أيام الحج، فالمقام الحج، فالمقال يكون كذلك، ولذا في هذه الأسطر نستعرض نصًّا نبويًّا كريمًا، يناقش أمرًا جوهريًّا في الحج، يوضح فيه العلاقة بين المظهر والمخبر، والباطن والظاهر للحاج الكريم الذي عقد العزم على أداء هذه الشعيرة العظيمة، فأرخص في سبيلها الجهد والمال والوقت، وتحمل الغربة والمشقة، والبعد عن الأهل والوطن.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قام رجل فقال يا رسول الله! ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران، ولا الورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين».
ولنا مع هذا النص الكريم الوقفات التالية:
الأولى: السؤال في الحديث عن لباس المحرم، فالمحرم الذي لبَّى نداء الله تعالى، ووصل إلى الميقات ليبدأ الانطلاقة العظيمة لأداء هذا النسك فلبَّى «لبيك اللهم لبيك»، «اللهم إني نويت الحج» أو «نويت عمرة متمتعًا بها إلى الحج» أو «نويت عمرة وحجًّا»، وذلك حسب نسكه الذي يريد مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا، هذه النية هي الإحرام، وليست اللباس، وإنما اللباس هو شعار المحرم، ليكون الجميع سواسية في الظاهر كما هم سواسية لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
أما اللباس فهو جميع الألبسة سوى ما استُثني في هذا الحديث، والمستثنى يجمعه كل ما كان مَخيطًا ومُحيطًا بالبدن كالثوب والقميص والفانلة والبنطلون والسراويل والجوارب ونحوها، إذا لبست على هيئتها المعتادة، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: «لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس». والبرانس: جمع برنس، ويقصد به كل ساتر للرأس، مخيطًا كان أو غيره. وهنا وقفة تأمل للحاج الكريم؛ لماذا مُنع الحاج من هذه الألبسة؟ ويلبس رداءين أبيضين نظيفين؟
هذا اللباس يدعوه لمناقشة نفسه، وتأمل أحواله لكي يقلع عما تلبَّس به من المخالفات والآثام السابقة فيكون حَجه ناسخًا لما سبقه، مجددًا أحواله وعلاقته بخالقه، متخرجًا من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أبيض نظيفًا «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وإذا كان كذلك كان جزاؤه الجنة «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
جزاؤه الجنة «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
الثانية: ولأن الحج جهاد لما فيه من المشاق والتعب، ولما فيه من الشعث؛ مُنع الحاج من التطيب والتعطر فيبعد عن زينة الدنيا، فينظر إلى هذه الدنيا نظرة حقيقية بأنها لا تستحق أن تكون ميدانًا للمفاضلة والتعالي، وما هي إلا جسر عبور إلى الآخرة، وميدان للتزود إلى ما بعدها، فإذا تأمل الحاج ذلك هانت عليه، وعظمت في تفكيره الآخرة، فعمل لها وجدَّ واجتهد، وبذل وأنفق، فكان حجه زادًا عظيمًا، ويجده عند الله تعالى أضعافًا مضاعفة «والحج المبرور ليس له جزاء إلَّا الجنة».
الثالثة: والمرأة لها موقعها الخاص في هذا الحج لباسًا ومظهرًا ومخبَرًا، فتكريمها واحترامها وعلو مكانتها جعل الحج جهادها؛ فعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! هل على النساء من جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» [أحمد، وابن ماجه]. ولأنَّ لها مقامًا خاصًّا خُفف عنها اللباس، فلها أن تلبس ما شاءت إلا ما لا يجوز في العادة كالثياب الرقيقة الواصفة لجسدها أو المشابهة للرجال، وفي الحج خاصة «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين».
فأين من يريد تكريم المرأة بزيادة أعبائها، وتحميلها ما لا تطيق في المصنع والمتجر وميادين العمل الخاصة بالرجال؟! أما هذا الدين فيكرمها حتى في العبادات والشعائر، فلله الحِكمة البالغة.
الرابعة: دعوة إلى الحاج الكريم أن يتأمل في هذه المناسك العظيمة والأعمال الرائعة وهو يؤديها استجابة لله تعالى، طواعية واختيارًا، جعل الله تعالى حجَّ الجميع مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا.

حديث ومعنًى: كل عمل ابن آدم يضاعف
مجلة الإرشاد للحرس الوطني عدد رمضان 1423هـ. يصدر هذا العدد المبارك من مجلة الإرشاد في هذا الشهر المبارك، والمسلم يتطلع...

جهاد المرأة: حديث ومعنًى
حديثنا هذا العدد يدور حول جهاد المرأة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله!...

حديث ومعنًى: فضائل تنفيس الكروب وآثارها
الحمد لله المنعم، والصلاة والسلام على النبي المعلِّم، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبعد: فهذه وقفات مع حديث «من نفَّس...

حديث ومعنًى: «حقوق المسلم الستة»
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:...

وقـفـة مع التقنية
في كل زمن تجد ظواهر، ويقف الناس منها موقف الرافض، أو موقف المتخوف، أو المنبهر، أو المنغمس فيها دون تأمل...